وئام.. بقلم فاطمة الزهراء سهام
فاطمة الزهراء سهام
وئام
مرحبا أنا وئام، حلمي أن أصبح مضيفة طيران لأنني سُنُوْنُوَة تحب التحليق عاليا والسفر بعيدا، لكن بعد رحيل أمي المفجع المفاجئ لم أستطيع إكمال حياتي ممم أقصد دراستي، أحتاج المال لكي أتمكن من إعالة أخي الصغير ومتابعة تعليمه، خصوصا أن بيتنا باعته أمي في رحلة علاجها.
بعد محاولاتي المتكررة تمكنت أخيرا من العمل في أحد مراكز الاتصال وسط البيضاء، مرتبي لا بأس به ويسدد أشيائي الضرورية، هنالك كنتُ أتعرض للتنمر من طرف زميلة غريبة الأطوار كلما أتيحت لها الفرصة تبث سمها في روحي، لكن زميل معنا كان يساندني ويدافع عني، مثلا أنا أعاني منذ أعوام طويلة من رهاب النظافة وأي شي أمامي أرغب غسله وتعقيمه من تلك الجراثيم المتطفلة، لذا كانت زميلتي لبنى تسخر مني عندما أمسح يدي بالمعقم و مكتبي مرارا وتكرارا ، لكنه كان يعارضها ويثني على نظافتي ويبتسم لي ابتسامة تودد.
لقد كان سامي نقطة الضوء الوحيدة في ذلك المركز المزعج، كل صباح يمر قرب مقعدي ملقيا تحية الحياة ويسألني عنحالي، في بعض المرات يجلب لي فطيرة بالشوكولاطة كما أحبها، ينتبه لتفاصيلي الصغيرة، ويصغي لأحاديثيوتدمري من لامبالاة شقيقي.
في أحد الصباحات الماطرة التي انتظرت قدومه الهادئ والصاخب في قلبي تغيب عن العمل، تشوش ذهني وأنا أفكر“هل ساءت حالته الصحية؟ ما الذي حدث معه ؟ وما سبب غيابه المفاجئ ؟” بعد انتهاء العمل ذهبت لمنزلي حزينة جداوأفتقده..
وفي اليوم التالي أتى لكنه بدا شاحبا وحزينا، بعد انتهاء المناوبة تقدمت نحوه وسألته إن كان على ما يرام، فأخبرنيأن أمه تعبت قليلا فاضطر لنقلها إلى المشفى، تمنيت الشفاء لأمه وذهب كل منا لحال سبيله.
كان البهجة الوحيدة لقلبي المتصدع الحزين، في غفلة من الحزن دخل حياتي وسحب وحشتي وحشة وحشة، كلما أخبرني أنه حدث أمه عني تلتف الفراشات بقلبي، وكل المساءات لا تأتيني إلا بصوته وحكاياته المسلية.
وبعد مرور شهر تعبت أمه مرة أخرى وتغيَّب أسبوعا، نعم أسبوع بأكمله ومقعده فارغ كقلبي، اتصلت به فانهار بكاءً بصوت مبحوح و مكسور الخاطر أخبرني أنه لا يستطيع العيش دون أمه، فكرت طويلا فطلبت من زميلة لي أن نقوم بزيارة لأمه، وافقت وأخبرنا أنها ستكون بالمنزل بعد غد.. ذياك الصباح رافقت زميلتي للعنوان الذي بعث لنا إياه حاملتان كيس فواكه وباقة ورد، استقبلنا أمام المبنى وا قتادنا إلى البيت، دخلنا كانت أمه مستلقية على السرير بوجه شاحب وعيون ذابلة، ابتسمت لي ومدت يدها لي خصيصا وأنا خجلة! حتى صديقتي استغربت من الموقف كأنها تعرفني، فهمتُ بعدها أنها رأتني بعيني ابنها، وبعد انتهاء الزيارةأخبرنا أنه سيأتي غدا للعمل، أخذ لنا طاكسي وذهبنا..
الليل كله وأنا أفكر في اهتمام أمه بي، كان أمرا كافيا تماما ليزرع حقل ياسمين بقلبي..
في صباح اليوم الثاني لم يأتِ وغيابه المتتالي يزيد من خوفي عليه، اتصل بي فأجبت بسرعة وقلبي يخفق “لباسعليك؟ هانية“، فرد أنه اتصل بي فقط لكي يطمئنني على حاله، أحسست بالألفة والانتماء لهذا الرجل الذي زارنيوأشعل المصابيح في روحي كلها.
وبعد مرور شهرين والأمور مستقرة تماما، طلب مقابلتي في أحد المقاهي من أجل أمر مصيري، ترددت كثيرا وفيالأخير وافقت، لَبِسْتُ أجمل ما لذي، وفعلا كان المشهد خرافيا جدا عندما جثا على ركبتيه حاملا خاتم زواج يلمع بيده،طِرْتُ فرحا وقَبِلْتُ طبعا…
أنا فعلا أعيش أجمل أيام حياتي، وهذا الخاتم اللَّماع يزين حالاتي، خبا حزني و تخلصتُ من رهاب النظافة نهائيا بحضوره الذي يشبه السحر.
بعد حفلة الخطوبة بعشرة أيام بالضبط أخبرني أن التحاليل المخبرية أضهرت أن أمه تعاني ورما في المخ وهذا الأمريستدعي تدخلا جراحيا فوريا، كان الأمر مفجعا بالنسبة إلينا، وبعد مشاورات طويلة قررنا أنه سيطلب قرضا منالبنك لأننا لا نملك المال لإجراء هذه العملية، شكرتني أمه بشكل لا يوصف على صنيعي بحياتها وحياة ابنها، وبأننيألطف شيء حدث مع ابنها الوحيد.
لكن وقع ما لم يكن في الحسبان، رفضت مؤسسة القرض الموافقة على طلبه، ودونما تفكير عرضت عليه محاولتي أنا أدفع القرض باسمي لكنه انزعج كثيرا ورفض، بعد إصراري الشديد وضغط صداع أمه المستمر قَبِلَ عرضي، بشرط أنه الوحيد من سيتكلف بدفع هذه الديون وأن اسمي صُورِي فقط، وفعلا نجح الأمر معي هذه المرة وكان فخورا بي جدا..أخبرني والسعادة تغمره بأنه سيخبر الأطباء تحديد موعد العملية والحجز بالمصحة.
ذهبنا للبنك وبعد القليل من الإجراءات أخذنا المبلغ، طلبتُ منه أن يحتفظ به لأنني لا أستطيع تركه معي لأني فتاة تعيش وحدها و شقيقها الأصغر، بالطبع هذا ما حدث..
مع اقتراب موعد العملية تغيب عن العمل ففزعت، حملتُ هاتفي مباشرة واتصلت عسى المانع خيرا وأن لا يكون مكروه قد وقع لأمه، لكن الهاتف غير مشغل على ما يبدو، بعد انتهاء مناوبتي هرعت مسرعة لبيته، قرعت الباب مرارا وتكرارا ولا أحد يرد، ثم تذكرت أني لا أعرف اصلا اسم المصحة، فجأة فتحت جارة في المنزل المقابل الباب، حاولت الاطمئنان منها عن أهل البيت وعن الوالدة بالتحديد، طالعتُ استغرابها فأجابتني “أي امرأة ابنتي؟ هذا الشاب يعيش لوحدهمنذ استأجر هذا البيت، والبارحة مساء جمع أغراضه كلها ورحل..”
صُدمت وأجبتها “كيف وهو الذي أخبرني أن هذا منزل جده” رمقتني بنظرة غريبة واسترسلت” ابنتي الله يهديك واقيلا راك غالطة هذه شقق مفروشة للكراء أساسا“.
وكأني بغيبوبة، والأحداث تمر أمامي كمشهد لستُ فيه، لم يخبرني ولا مرة أي مشفى ترقد والدته، ولا أطلعني عن نتائج التحاليل الخاصة بمرضها…! تذكرتُ تلك النظرة التي رمقني بها آخر مرة التقينا، تلك النظرة تشبه الغياب.
أحسستُ بأن يدي متسخة فحملتُ منديلي وبدأت أمسحها بالمعقم بشدة وأعيد الحك بسرعة المرة تلو المرة تلو المرة، رمقتني الجارة نظرة عطف وحاولت الاقتراب مني، لكني نزلتُ الدرج كأنني أهوي..
ومنذ ذلك الحين وأنا أمشي، ألبس خاتمه الصدئ وأحمل صورته وأسأل الناس “من منكم رأى قلبي؟ “.