مارية الزويني.. يسارية قادمة من زاوية سيدي الزوين (1)

مغربيات
إلى جانب وداد و لطيفة و النكية و فاطنة و خديجة، ذاقت مارية الزويني تجربة الاعتقال السياسي بدرب مولاي الشريف أواخر السبعينيات (سنة 1977). خلال ستة أشهر قضتها داخل القبو المظلم حملت اسم “عبد المنعم” قسرا، لأن الجلادين أرادوا إذلالها إلى جانب رفيقاتها فاختاروا لهن أسماء ذكورية. كيف تتجرأ النساء على خوض غمار السياسة، هؤلاء بالنسبة للجلاد لسن نساء، إنهن ذكور في عباءة نساء.
كانت مارية تضع “عصابة” حول عينيها طيلة فترة الاعتقال بدرب مولاي الشريف، تنام بممر ضيق إلى جانب رفيقاتها. لم يكن مسموح لهن بالكلام أو رؤية بعضهن البعض. ستة أشهر من القهر و الجوع و انعدام الكرامة الإنسانية عاشتها مارية إلى جانب رفيقاتها، قبل أن يتم نقلهن إضافة إلى أزيد من مائة معتقل سياسي آخرين إلى سجن سيدي سعيد بمكناس، هناك ستلتقي مارية لأول مرة بأفراد أسرتها الذين قدموا من مراكش لزيارتها بعد أن كانوا قد فقدوا الأمل في رؤيتها مرة أخرى مع شقيقها المعتقل بنفس السجن.
في هذه السلسلة الرمضانية تحكي المعتقلة السياسية السابقة مارية الزويني عن هذه التجربة القاسية التي لم تزدها إلا صمودا و إيمانا بأن مشروع مغرب ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية و يعيش فيه المواطنون سواسية ليس مستحيلا.
على بعد 36 كيلومترا من مراكش، و تحديدا بزاوية سيدي الزوين التي تقع بجماعة سيدي الزوين التابعة لدائرة الوداية، نشأت الطفلة مارية الزويني بين أحضان المشايخ و حفظة القرآن الكريم. هدوؤها ينم عن نزعة صوفية راسخة، و تمردها على الظلم و الاستعباد و ميلها لمناصرة المظلومين و إعلاء صوت الحق يبشر بشخصية متمردة سوف تعتنق المبادئ اليسارية التي ظهرت أواخر الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي، و التي دفع أصحابها ثمن قناعاتهم غاليا، من سنوات الاعتقال الطويلة التي أمضوها في السجون، قبل أن يغادروها بأجساد منهكة و أرواح صلبة عنيدة لا تقبل الاستسلام.
أدركت مارية منذ صغر سنها أن البشر سواسية و أن الفروق الظالمة هي مِنْ صُنع البشر فقط. تقول ” ترعرعت بزاوية سيدي الزوين، و انتبهت إلى أن أبناء هذه الزاوية يعتقدون أنهم أرفع شأنا من غيرهم بالمنطقة، وكان ذلك يثير لدي مشاعر عدم الرضى، بحيث لم أكن أقبل منذ صغر سني أن يُعامل الناس الذين يشتغلون بالأجرة ببيتنا كما لو كانوا من الدرجة الثانية. كنت أشعر بالحرج و بدأت روح متمردة تكبر بداخلي و تدفعني دائما لأن أستنكر الظلم و انتصر للمظلومين و المستضعفين، و ربما هذه النزعة اكتسبتها حتى من التربية التي تلقيتها من والدي الذي كان يلقنني مبادئ العدل و القيم الدينية التي تعتبر الناس سواسية”.
الطفلة مارية
“كان الوالد يعامل الناس باحترام، لكن ذلك لا ينجح في محو الفوارق التي كنت أراها أمامي و أنا صغيرة، حتى أن شقيقي كان يعامل بشكل مختلف، فقط لأنه ذكر و أنا أنثى. كنت دائمة التمرد و الاحتجاج على هذا الوضع السائد، رافضة لأي أمر يفرق بيني و بين أخي بسبب الجنس”.
هذه الصفات التي وجدت مارية أنها متأصلة في طباعها لم تكن تجد لها تشجيعا و اعترافا إلا من والدها الذي لم يكن يفرق بين أبنائه ذكورا و إناثا، كما كان يحترم اختياراتهم/ن، رغم كونه واحدا من أبناء الزاوية، إلا أنه كان يحمل أفكارا و قناعات جد متقدمة على أبناء جلدته و عصره. كان يؤمن بالمساواة، و لم يلجأ إلى إخفاء بناته و فرض سلطته عليهن، بل حرص على تعليمهن و منحهن حرية اتخاذ القرارات، عكس أبناء عمومته. ” كان والدي يصحبني معه في خرجاته، و كنت أرافقه إلى مراكش، عكس الآباء من أبناء الزاوية الآخرين، و الأكثر من ذلك أنه كان حريصا على أن أتعلم أنا و شقيقاتي، في الوقت الذي لم تتمكن العديد من بنات الزاوية من ولوج المدرسة في ذلك الوقت “.
و لكي تتابع مارية تعليمها، التحقت ببيت جدتها من أمها بحومة رياض العروس مراكش، وهناك سوف يتفتح وعيها على الأفكار اليسارية التي وجدتها هناك بين أخوالها. “حين التحاقي ببيت جدتي لأمي بمراكش، سوف أكتشف فضاءا آخر يشع بالفكر التنويري التقدمي الذي لا علاقة له بما عشته في الزاوية، إذ انتقلت من بيئة دينية تقليدية إلى بيئة مختلفة تماما، و قد سبق لأخوالي أن ذاقوا تجربة الاعتقال السياسي، كما أذكر أن أحدهم تعرض لكسور بعد مشاركته في إضراب دار البارود، و ما تلاها من أحداث معروفة”.
عندما التحقت مارية بسلك الإعدادي، انتقلت أسرتها للعيش بمراكش، بسبب حرص والدها على تعليم بناته، مع غياب الإعدادية بمنطقة سيدي الزوين، و هناك سوف تنتقل مارية من بيت الجدة الذي أمضت به سنوات من التعليم الابتدائي لتعانق حضن أسرتها من جديد.
في المرحلة الثانوية ستصبح مارية نشيطة في القطاع التلاميذي من خلال خوض الإضرابات و الاحتجاجات في إطار النقابة الوطنية للتلاميذ المحظورة آنداك، و بحكم روحها المتمردة، كانت تنضم لحلقات النقاش التي كانت تجرى بساحة الثانوية، تخوض بصحبة رفاقها في النقاشات الفكرية الصاخبة، مما أضاع عليها فرصة النجاح في شعبة العلوم الرياضية، لتتوجه صوب شعبة العلوم التجريبية التي حصلت فيها على شهادة البكالوريا بميزة جيد.
بقدر ما شكل تشجيع والدها لها و تخطيه للأعراف و التقاليد السائدة في الزاوية على الدراسة حافزا للتفوق الدراسي، بقدر ما كان طوقا حول رقبتها و عهدا قطعته على نفسها بألا تدخر جهدا من أجل إحراز نتائج جيدة و تحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة متخصصة في الأمراض النفسية و العقلية، وهو الحلم الذي سيتبخر بعد المنعطف الذي سيواجهها بعد التحاقها بكلية الطب بالرباط سنة 1976.