عاشقة المسرح… بقلم فوزية رفيق الحيضوري
عاشقة المسرح….
بقلم فوزية رفيق الحيضوري
كانت جلُّ أحاديثها تصبّ في نهر الفن والعشق الأبديّ للمسرح، تهفو لمن ينصت لهمسها وبوحها الشفيف ، تسترجع الأمس البعيد، كلما جرفها الحنين إلى ذلك الماضي الذي كان شاهدا على عبث الزمن بعشقها، وإجهاض حلُم نسجته بأحاسيسها الرقيقة ومشاعرها المتدفقة، معتقدة أنها أتقنت النسج…رحلة مذهلة مع ذاك العشق.
تحمل معها التذكار و الشوق، تتخلص من آهات مكتومة جاثمة على صدرها، تحوّلها إلى تنهيدات متقطعة تنبعث من أغوار الروح، تتسلل من حنجرة مثلومة،صرخة بها تخفف أَلَمَ نبْضٍ مسكون بالفن.
تحاول دوما أن تداري شجناً يحاصرها طوال الوقت، تفجره أحيانا كثيرة بكاء طفوليا يبدو للذي لا يعرفها أنْ لا سبب له. تطفئ بالدموع غضبها وتسترسل في نوبة من الضحك.
مهووسةً كانت بعشق المسرح، لم تدخل عالمه إلا صدفة في طفولتها يوم اختارتها معلمتها لتشارك في الأنشطة الثقافية للمدرسة، ثم بعد التحاقها بإحدى الفرق المسرحية المحلية بمدينتها.
كانت الفترة بداية استقلال المغرب، وكان المغاربة قد انخرطوا في بناء وطن حرّ يفسح المجال للثقافة والفن. وفي هذا السياق كانت الفرق المسرحية الهاوية، والمحترفة منها تحتل الواجهة، وتسعى إلى استقطاب الشباب للانتماء لمشروعها الذي كان يتميز بالانفتاح على التراث الوطني والتجارب العالمية من خلال حركة دائبة من الاقتباس والترجمة والتأليف.
كانت تحلم أن تلعب دور شخصية من الشخصيات التاريخية العالمية، لكن الظروف حالت بينها وبين ذلك، فهي تنتمي إلى أسرة تقليدية، محافظة، ترفض أن تكون ابنتها ممثلة،بالرغم من حبها للفن.
كلما كانت هناك جلسة عائلية إلاّ وحولت النقاش فيها إلى المسرح، كيف أغرمت به وبرواده الكبار، شكسبير، موليير، أبو خليل القباني، يعقوب صنوع، الطيب لعلج موليير المغرب، الطيب الصديقي ، العربي الدغمي….. تتحدث بإعجاب كبير عن الفنانات فاطمة الرگراگي، حبيبة المذكوري، وفاء لهراوي، أمينة رشيد، نعيمة المشرقي، وكذا الفنان محمد خدي الذي جاورته في إحدى الفرق المسرحية في البدايات الأولى لمشواره الفني، إضافة إلى حمادي التونسي، عبدالرزاق حكم، حمادي الأزرق، زكي الهواري وآخرين….
تفاجئك بترديد مشهد من مشاهد مسرحية عالمية أو عربية:
أكون أو لا أكون تلك هي المسألة…. (هاملت)
أيها الأصدقاء، أيها الرومان بني وطني أعيروني أسماعكم(يوليوس قيصر)
وحين أدرك شهرزاد الصباح، سكتت عن الكلام المباح والديك قد صاح معلنا أن الصباح قد لاح… (حكايات ألف ليلة وليلة)…
كان الركح أملها ومُنَاهَا لذلك كانت مصرة أن تلعب فوقه إنْ في حلُمها أو في يقظتها.
إنها تعرف عن المسرح أكثر مما تعرف عن نفسها، تعشقه أكثر من عشقها للحياة التي تحبها وتهواها، تتحسر على أن طموحها تحول إلى وَهْمٍ…..
يافعة جميلة، أنيقة كانت، منبع الطيبة والحب، تلقائية، مقبلة على الحياة،متمردة على حصار العادات والتقاليد…
انخرطت فيما سمي آنذاك بمدرسة التهيء الرياضي، قسم كرة السلة التابع لوزارة التعليم التي كانت تُعرف في بداية الستينيات بوزارة التعليم والفنون الجميلة.
كانت عاشقة المسرح، تشبع فضولها المعرفي بالقراءة لنجيب محفوظ، توفيق الحكيم، إحسان عبدالقدوس، يوسف السباعي، سميرة بنت الجزيرة العربية،…… كما كانت مواظبة على اقتناء المجلة الفنية التي تروّج لأخبار الفنانين و الفنانات آنذاك.
أفراد أسرتها كانوا يتضايقون أحيانا من كثرة حديثها عن المسرح، لم تكن تكثرت لا لتعليقاتهم ولا لاستفزازاتهم، المهم أن يأخذ الحديث عن عشقها الأبدي حصة الأسد، وأشد ما كان يبهجها هو تحويل حوار شخصيات الروايات إلى مشاهد مسرحية…
وفي خضم الاحتفال باستقلال الوطن، كانت تردد الأناشيد والقصائد الوطنية بإيقاع مسرحي جميل:
إيه أمة المغرب إيه دولة المغرب
إن نعش عشنا كراما أو نمت متنا كراما
ولأحمد البيضاوي، تردد:
يا صاحب الصولة والصولجان
تَمَلَّ بالملك وعش في أمان
محصنا من عاديات الزمن…
وكان كلما طُرق باب المنزل، تسارع لفتحه، سائلة:
من الطارق الداعي؟
أقيس أرى؟
ما وقوفك والفتيان قد ساروا؟
تغيرُ صوتها وتقول بلهجة لا تخلو من الصرامة والدهشة، مقلدة بذلك المهدي والد ليلى:
_أين كنت إذن؟
_في الدار حتى خلت من نارنا الدار.
تقلد بعد ذلك ليلى وهي تطل من وراء الخباء، خجولة، فرحة قائلة:
_قيس ابن عمي عندنا، يا مرحبا، يا مرحبا…
ركحها المفضل كان هو فناء البيت، وأحيانا غرفة الضيوف، أما المطبخ فكانت تجعل من محتوياته شخوصا تخاطبهم، مرتجلة مشاهد وحوارات.
لم يحالفها الحظ لإتمام دراستها، فقد تزوجت في سن مبكرة، ورغم أعباء البيت ومسؤولياته، وتربية أبنائها وحبها الشديد لهم، وحبها الكبير لزوجها ورفيق عمرها، كل ذلك لم ينسها المسرح، فهو عشق أبدى.
تأكلها الحسرة ويلفها الأسى، لأن المسرحيات التي لعبت فيها لم يتم تسجيلها لا بالصورة ولا بالصوت في ذلك الوقت،عدا بعض الصور الفوتوغرافية التي تحتفظ بها في ألبومها إلى الآن.
بقيت محافظة على القراءة يوميا، تقاوم بها الرتابة والروتين، بها تنتصر على خيبة أملها كما تقول.
في مذكرتها التي تلازمها، تمارس فعل الكتابة وإن بلغة بسيطة، مباشرة، تتحدث من خلالها عن تجربتها، فهي تحلق بها في عالم الماضي الذي بقيت مشدودة إليه،و تهيم بها في سحر الأحلام، التي تنعشها وتمنحها الأمان، تبحث من خلالها عن حروف لا تنفرط، تليق بوصف ذاك العشق الذي به تحيا والذي تسلل إلى قلبها ومنحها الشهد واستقر.
في همس تخاطب نفسها:
أب الفنون، أنت النور الذي به أستضيء… بمعاول الأمل أهدم جدران اليأس كي أعيش.
الآن ،هي في عقدها السابع تقلب صفحات العمر، صفحات من تاريخ الحزن، تكابد الشوق وتراوغه،تتحدى النار والرماد، وكل الصخور الصماء، تساير أمواج الحنين التي تأخذها بين مدٍّ وجزرٍ، لا عزاء لها، بدأ الجسد يتعب من وعثاء سفر طويل، والذاكرة تخونها بين الفينة والأخرى، أشياء كثيرة قد لا تتذكرها، لم تعد مهمة بالنسبة إليها، لكن هذه الذاكرة ظلت وفية، وفاء صاحبتها لأب الفنون، فهو مقيم دوما في أعماقها.
تحارب النسيان، رغم الظلمة التي بدأت تلف حياتها لغروب شمس قبل الأوان، فتبتهج وهي تحكي عن أول زيارة لسيدة الطرب العربي أم كلثوم للمغرب (فبراير1968) ، عن أدق التفاصيل عن السهرات التي أحيتها في مدينة الرباط وزيارتها لكل من مراكش، فاس مكناس وتطوان..
تحكي عن فرقة المعمورة وعن روادها واحداً…واحداً
يسكنها جنون المسرح، تردد بصوت شجي:
أهواك واتمنى لو أنساك
وأنسى روحي وياك….
حبه عصي، عنيد، كورقة في مهب الريح ترتجف، يتحجر الدمع في مقلتيها، يضيق صدرها، تسمع نبضها الخافق، قطرة عرق تتصبب من على جبينها، تتحسسها بأناملها، ثم تمسح وجهها براحتها. تبتسم ابتسامة أنيقة ممزوجة بالحرقة، بالإحساس بالشباب الدائم بداخلها رغم جور الزمان، ومرور السنين، ابتسامة الطفلة التي لم تغادرها يوما،.. تدقق النظر فيما حولها لتحدد مكان تواجدها، وتغني :
أيظن أني لعبة بين يديه
أنا لا أفكر في الرجوع إليه….
حتى فساتيني التي أهملتها
فرحت به، رقصت على قدميه…..