المرأة و الصور النمطية
ذ. العربي وافي
في الدراسات الاجتماعية يطلق اسم النمطيات أو الصور النمطية “stéréotypes” على تلك الأفكار الجاهزة عن الأشياء والناس، والتي تنزع حفاظاً على الانسجام مع الأفكار المسبقة والعوائد التي تكفلها منطقة مريحة للمعرفة، إلى اللجوء إلى أفكار جاهزة، تعكس معرفة عجلى، لا تحيط إلا بالنزر القليل من المعارف، والتي عادة ما تحول دون الانفتاح على اختلافات الآخرين، سواء في انتمائهم العرقي أو الاجتماعي–الثقافي أو الجنسي. فبدل ذلك الانفتاح يتم الاكتفاء بالنظر إليهم من خلال نمطيات تشكل نوعا من الأحكام التي تقوم على تصنيف اجتماعي أو عرقي لجماعة أو فئة معينة. والملاحظ أنه يغلب على هذه النمطيات التبسيط والتعميم بصورة مبالغ فيها، نظراً لكونها ناتجة عن جهل بالآخر، إذ تعكس صراحة أو ضمنا افتراضات تتصل بالطباع والخصائص وأنواع السلوك. كما تكشف عن عدم الاحترام وغياب التسامح تجاه الآخرين.
تتبلور تلك النمطيات على شكل صورة أو سلسلة من الصور تعبر عن رأي يهيمن على “التمثلات الجمعية“، التي قد تنطوي على أنواع مختلفة من التوجس والشعور بالخوف من الآخر والتعصب أو الاستهانة. وتكتسب هذه النمطيات قوتها من خلال التكرار في المواقف والاتجاهات التي تزيدها رسوخا في الأذهان، وتجعلها تؤثر في “الرأي العام” ، وتتجلى بشكل ملحوظ في نظرة الآخرين وفي السلوك اليومي.وبهذا المعنى فهي قادرة على أن تستحوذ علينا وتستلبنا، مما يؤدي إلى تشويه للحقائق، وتغييب وجهات النظر المختلفة والمعقدة.
تؤدي الآراء النمطية الشائعة من هذا القبيل إلى تبسيطات مخِلة من قبيل إطلاق أوصاف مؤنثة “مسكوكة” بشكل اعتباطي، تنهال على المرأة بأوصاف سلبية تنال من هويتها وتحط من قدرها. وسرعان ما تتحول تلك الأوصاف، إلى حقائق شبه “مطلقة” يشيدها الفكر ثم يأسر نفسه داخلها. إنها بعبارة أخرى تصبح “كائنات ذهنية” تتمتع بكامل الحياة والقوة. والحال أن المرأة قد تنظر لذاتها من خلال تلك الآراء التي يصوغها المجتمع الذكوري، مما قد يجعلها تنظر لذاتها بصورة سلبية تحد من قدرتها على المبادرة والاستقلالية وتقدير الذات. لقد لخصت ليندا جين شيفرد في كتابها “أنثوية العلم، العلم من منظور الفلسفة النسوية” هذا الموقف بقولها “”ولكي يشق الرجال طريقهم في هذا العالم، عملوا على إسقاط العديد من الصفات المهترئة غير المرغوبة على ما يبدو من الناحية التاريخية على المرأة، حتى ينكروا أي منشأ لها عن ذواتهم. بهذه الطريقة ألصق الرجال بطاقة الأنثوية على تلك الصفات التي لاحظوها في المرأة، بمعية تلك الصفات التي ينكروها على أنفسهم. وبالمثل، تم إسقاط تلك الخصائص “غير المـرغوبة” على الناس من الأعــراق والقوميـات، والأجيال، والأديان الأخرى.”
ولأن النساء يعتمدن في مفهوم الذات وفي إدراكهن لهويتهن بل حتى في مظهرهن و ذوقهن على مدركات الرجال، فإن هذا يجعلهن مستعبدات لما تروج له السينما والمحطات التلفزية والمجلات النسائية، تحت تأثير مفعول العرض العالمي “L’effet de “démonstration internationale الذي لديه قدرة على التلاعب بمظهر المرأة كي يجعلها على صورة وشبه “موديل” مبتذل يُكسى ويُعرى تبعاً لنوازع الموضة ودواعيها. إنه لأمر يبعث على الرثاء أن يجعل مفعول العرض العالمي المرأة تلهت دوماً وراء الجديد والمبتكر لكي تغير من “جلدها” ما بين الشفط، والنفخ، والشد، والنتف، والوخز، والتثقيب “percing”… لقد جعلتها الحداثة المتوحشة مجرد كائن جنسي قابل للإستهواء وللإشتهاء. وهكذا يجري تنميط جسم المرأة كما يرى بيير بورديو “Pierre Bourdieu” في صورة ذلك النظام القار للاستعدادات والمواقف الذي أسميه مَلَكة “Habitus” فالجسم يوجد داخل الحقل الاجتماعي. إلا أن الحقل الاجتماعي يكون أيضاً حالا في الجسم، وإن حلول المجتمعي في الجسم الذي يحققه التعلم والترويض هو أساس الحضور في الحقل الاجتماعي، ذلك الحضور الذي تنظر إليه التجربة العادية والفعالية الناجحة كأمر عادي مفروغ منه“.
إن دُور الموضة وشركات صنع مواد التجميل وفنون التسويق والإعلان تعمل على تنميط المرأة بشكل يسهل “تسليع” “Marchandisation” جسدها، كمَتاع نجده معروضاً في الورق الصقيل للمجلات النسائية، والوصلات الإشهارية لمواد حفظ الصحة والتجميل، والأدوات المنزلية والسيارات…هكذا يعمل الإشهار عبر الخطاب الدعائي على استيلاب المرأة وتشييئها بتقديمها كسلعة، أو في أحسن الأحوال كمُلهمة للسلوك الاستهلاكي.
لقد سبق أن شخصت سيمون دوبوفوار “Simone De Beauvoir” حالة المرأة المستلبة في هذا المشهد الاستهلاكي، بلغة واضحة بقولها” لقد تعلمت(أي المرأة) أنها لكي تحظى بالإعجاب، عليها أن تعمل على أن تحظى به، يجب أن تجعل من ذاتها “شيئاً” وان تتخلى بالتالي عن استقلاليتها. إنها تُعامل كما لو كانت دمية حية، فحُريتها مرفوضة، هكذا تكتمل استدارة الحلقة المفرغة؛ وبقدر ما يُحد من حريتها في فهم العالم من حولها والإحاطة به واكتـشــافه، بــقدر ما ستقــل المـــوارد التي ستـلج إليها، وبقدر ما سيُحد من جرأتها على فـرض نفسها كذات فاعلة.”
وصحيح أننا نشاهد بعض مظاهر المقاومة المضادة للصورة النمطية عن المرأة، مثل وضع الحجاب الذي يظهر في المشهد العام كرد فعل يحمل من بين معاني أخرى هوية تُظاهِر بها المرأة باعتبار أن لها كياناً مستقلا يجب أخذه في الحسبان، وكاحتجاج على النظر إليها كمجرد أنثى أو كجسد، ولعل هذا ما يزيد الحجاب انتشاراً في سياق تحول اجتماعي تتضارب فيه القيم. غير أن فنون التجارة والموضة والتسويق أخذت تعمل على استعادة هذا اللباس “المحتشم” وإفراغه من مدلوله، بتحويله إلى أحد “الأكسسوارات” التي قد تزيد هندام المرأة أناقة وجمالية. وهذا يبين مدى قدرة الرأسمال على اختراق التمثلات والمعايير والقيم. مما يبين قدرة الشركات على التحول الميركانتيلي والعمل على استعادة الخطاب النسوي الداعي إلى التحرر، وتحويله إلى خطاب إشهاري عبر شعارات تروج لسلعها.