ظاهرة “الزوجات التقليديات” “Tradwives” على الوسائط الرقمية : خوض في الأسباب و الآثار

حوار مع الأستاذة الباحثة في علم الاجتماع محجوبة قاوقو

أجرى الحوار : هشام كنيش

يعيش العالم، ابتداءً من نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة، تحولات كبرى جراء الثورة التكنولوجية ذات الآثار العظيمة على الأفراد والجماعات في آن، بحيث إنها قلبت المنظر الاجتماعي بأكمله، من الدولة إلى الاقتصاد وصولا إلى المجتمع، ما يجعل من سؤال الثورة التكنولوجية وآثارها أحد أهم أسئلة القرن الحالي، إلى درجة أن كل تحليل يلغيها أو يتجنبها يمكن اعتباره تحليلا مختزلا وقاصرا. من هنا، نفهم دعوة بعض الأكاديميين إلى جعل الانخراط في أسئلة القرن الواحد والعشرين ورهاناته (وهم يقصدون بذلك الثورة التكنولوجية وآثارها) من مهام العلوم الاجتماعية الأساسية المدعوة إلى الاضطلاع بها اليوم.

إن الثورة التكنولوجية، في الواقع، عبارة عن براديغم يتشكل من خلاله معنى الحياة المعاصرة، كما أنه يستوعب معظم التحولات التي تخبرها المجتمعات في زمننا الراهن، وتأخذ المفاهيم، في إطاره، دلالات جديدة.

ومن الآثار الكبرى للثورة التكنولوجية كيف أن الرقمي صار يستحوذ على الحياة اليومية للأفراد، مما ينعكس على البنيات الذهنية والثقافية والهوياتية لديهم. من هنا، نفهم كيف تطفو إلى السطح قضايا قديمة في حلة جديدة، كما هو الحال بالنسبة لموضوعة العلاقة بين الجنسين التي شغلت البشرية منذ القدم، والنقاش حولها تطور ومس جوانب عديدة (إعادة إنتاج نفس الأدوار المبنية على التقسيم الجنسي للعمل، تحرير المرأة واعتبار ذلك مسألة التزام يحتاج إلى نضال مستمر…). إنها الموضوعة التي تأخذ صيغ متعددة في الطرح والتناول على منصات التواصل الاجتماعي، مثل تشكل هويات رقميةتنادي باستعادة المرأة لأدوارها التقليدية مقابل حركات نسوية تنادي بتحرير المرأة والمطالبة بالمساواة بين الجنسين.

هكذا، تصبح منصات التواصل الاجتماعي مسرحا جديداً لصراع هوياتي وأيديولوجي كبير وفائق، بالشكل الذي دفع مغربياتإلى التواصل مع الأستاذة الباحثة محجوبة قاوقو من أجل توضيح العديد من المسائل ذات الصلة والعمل على تغطيتها قدر الإمكان، كما سيتم ذلك في هذا الحوار الحصري.

مغربيات : في مستهل هذا الحوار، هل يمكن تقديم بعض المعلومات والأفكار حول الرقميفي إطار حقل العلوم الاجتماعية، وما هي أهم المقتضيات المنهجية الموجهة له؟

عندما نتحدث عن الرقميات داخل حقل العلوم الاجتماعية فإننا نحيل بشكل عام إلى مجال علمي صاعد بدأت بوادره الأولى في التشكل في التسعينات من القرن الماضي مع بداية انتشار الإنترنت، وبروز تمظهرات جديدة للذات الإنسانية، في بعدها النفسي والاجتماعي، وما ارتبط بذلك من ممارسات وتعبيرات هوياتية جديدة. حيث انخرط عدد من الباحثين في مساءلة القضايا الأولى التي بدأ يطرحها استخدام التكنولوجيا الحديثة للمعلومة والاتصال. نذكر في هذا السياق الأبحاث السيكولوجية المبكرة لشيري توركل، وأبحاث ديبورا ليبتونوهايدي كامبلفي مجال السوسيولوجيا، وأبحاث تيم إنغولدودانييل ميلرمن داخل حقل الأنثروبولوجيا. ولقد انتعش البحث في مجال الرقميات داخل العلوم الاجتماعية، خلال منتصف العقد الأول من هذا القرن، مع بروز وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي الرقمية، وما خلقته من تحولات على مستوى أشكال عرض الذات. حيث بدأت الأبحاث والدراسات المتراكمة بهذا الخصوص تنتظم في صيغة حقل علمي مستقل هو حقل الدراسات الرقمية كحقلٍ جامع لمختلف التخصصات التي تُعنى بدراسة أشكال استخدام الأفراد للفضاء الرقمي؛ ليتطور الأمر لاحقا إلى بروز تسميات واصفة لمجالات معرفية قائمة الذات تحاول أن تحدد هويتها العلمية الخاصة على مستوى موضوعات البحث والمنهج الموظف في مقاربتها. حيث أصبحنا نتحدث عن الأنثروبولوجيا الرقمية والسوسيولوجيا الرقمية، والسيكولوجيا الرقمية، وغيرها من المجالات البحثية المندرجة داخل حقل العلوم الاجتماعية.

وبالحديث عن المنهج، لابد من الإشارة هنا إلى أن المقتضيات والقواعد العامة للبحث الاجتماعي، سوسيولوجيًّا كان أو أنثربولوجيًّا، تظل هيَ هيَ، من حيث شروط بناء الموضوع علميا، وما يقتضيه من عزلٍ وتجريدٍ للظاهرة الاجتماعية، والالتزام بشروط الحياد العلمي، وغيرها من الضوابط العامة؛ لكن هناك خصوصيات أصبح يفترضها البحث الاجتماعي في الفضاء الرقمي باعتباره ميدانا جديدا للدراسة يختلف عن الميدان المألوف، بقدر ما تختلف الذات الفيزيقيةعن الذات الرقميةأو المُكَمَّمَة. لذلك فإن البحث داخل هذا المجال يقتضي إما تكيّيفاً لتقنيات وأدوات البحث المألوفة، أو تطويرا لتقنيات جديدة، أو الانفتاح على مجالات أخرى والاستعانة بالتقنيات التي تطورت داخلها، كما هو الشأن مع برمجيات تحليل المحتوى الرقمي الكيفي، وبرمجيات تحليل المعطيات الضخمة، وذلك في إطار تفعيل مبدأ تكاملية العلوم، الذي أصبح اليوم ضرورة ملحة، أكثر من أي وقت مضى، بالنظر إلى تداعيات الثورة الرقمية. وهذا التحول على مستوى مناهج البحث، جراء بروز المناهج الرقمية، أصبح يستدعي أيضا مراعاة أبعاد جديدة في أخلاقيات البحث ترتبط بالفضاء الرقمي، والتي ينبغي أن يعيها الباحث، ويأخذها بعين الاعتبار في مختلف مراحل البحث، من الميدان إلى الكتابة.

قبل تخصيص النظر والقول حول ظاهرة الزوجات التقليديات(tradwives)، ما الذي يفسر، في نظرك، بروز نقاشات واسعة على منصات التواصل الاجتماعي حول المرأة والجسد؟

عندما نتكلم عن الجسد، عموما، فإننا نتحدث عن البعد الأول للهوية في مستواها المادي الذي يفرض علينا نفسه كأوَّلِ تَمَظهُرٍ لها، نحاول عبره أن نُقدّم ذاتنا للغير، بالاشتغال عليه ثقافيا، عبر ما نُضِيفه إليه من علامات سيميولوجية، وما نُضْفِيه عليه من دلالات ورموز. إنه أوَّل ما يظهر منا. ولئن كانت الأجساد، على حد تعبير ديبورا ليبتون تْلقَى قدرا كبيرا من الاهتمام الرقميمقارنة بباقي عناصر الهوية، فإن الجسد الأنثوي يلقى اهتماما زائدا. لأنه بقدر ما يشكل موضوع رغبة واستهام، فإنه يشكل أيضاْ موضوع تحريم وقمع. وأنْ نجعله موضوعَ تحريم معناه أنْ نَحُدَّ حركته، أنْ نحصره ونُسَيّجَه، وأن نُمْعِنَ في حجبه وإخفائه بمختلف ضروب الإخفاء؛ من اللباس، إلى أسوار البيت، إلى تقنين أشكال الحركة وتقنيات الزينة؛ وكل ذلك لأجل الحفاظ على خصوصيته وطابعه الحميمي، لكن أنظمة التحريم هذه أصبحت كلها موضوع استشكال جراء الثورة الرقمية التي أضحت تطرح مفهوم الجسد كإشكال مركب، بأبعاد فلسفية، وأنثروبولوجية، وسوسيولوجية وسيكولوجية. لأننا أصبحنا أمام جسد افتراضي، رقمي، سديمي، مادي ولا مادي في الوقت نفسه، حاضر وغائب، يُقدَّم بأشكال وصور متعددة، يتعذر معها تعيين الحدود بين ما هو حميمي وما هو مشاع، ما هو مباح وما هو غير مباح.

ولقد أصبح جسد المرأة في هذا السياق أكثر بروزا، لأن الفضاء الرقمي بقدر ما يوفر إمكانات لإخفاء الجسد، بل والتجرد منه كليًّا، بقدر ما يشكل فضاء استعراضيًّا بامتياز، يشجع على الظهور، ويغُري بالكشف. فكلما كشفْتَ أكثر، كلما غَنِمْتَ أكثر. والغنيمة هنا بمعنى الشهرة الرقمية، مع ما يرافقها من مكاسب مادية ورمزية، مع كل ما تحمله من مخاطر.لذلك فإن أشكال العمومية غير المسبوقة التي أصبح يُقدَّم بها الجسد الأنثوي رقميًّا، كما هو الحال مع ممارسات من قبيل روتيني اليوميعلى قنوات اليوتيوب، ومختلف أشكال الاستعراض الجسدي على منصات الفايسبوك والتيك توك والإنستغرام؛ من الصيغ البسيطة إلى الصيغ الأكثر تطرفاً وعنفاً، والتي أصبحت معها الحياة الحميمية موضوعا للنقل المباشر والعمومي، في إطار عملية ممنهجة لتسليع الجسد، وجعله مادة للمشاهدة والتتبع والتلصص البصري، ومادة للتسويق والتقييم، مع ما رافق ذلك من انتعاش لسوق تجارية رأسمالية للجمال ترتبط به؛ كل ذلك وغيره، عزَّز الاهتمام بالجسد الأنثوي أكثر من أي وقت مضى، جراء الأسئلة القيمية والأخلاقية التي أصبحت تطرحها التوظيفات الجديدة للجسد عموما، والجسد الأنثوي خصوصا.

من الظواهر المثيرة في منصات التواصل الاجتماعي، ما يُعرف حاليا حركة الزوجات التقليديات(Tradwives)، ما هي خصائصها، وما هي دعوتها الرئيسة؟

برزت حركة الزوجات التقليديات” (إنْ صَحَّ اعتبارها حركة) بشكل أساسي في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2017. وتزامن ظهورها مع وصول الحزب الجمهوري بزعامة دونالد ترامب إلى سدة الحكم. ولقد صُنفت كحركة محافظة، تتقاطع في عدد من أفكارها مع أفكار الأحزاب اليمينية، بمختلف أجنحتها (المعتدلة والمتطرفة). حيث اتُهمت ممثلاتها بأنهن مدعومات من قِبل تلك الأحزاب، ويسعين إلى نشر أجندتها السياسية. ويعتبرها بعض الباحثين، كما هو الشأن مع فيرونيكا هوبنروصوفيا سايكس، جماعة ثقافية فرعية“. وتندرج داخل هذه الحركة نساء غربيات (أمريكيات على وجه الخصوص) يُؤْمِنَّ بالتقسيم الجندري التقليدي للأدوار، وفقا للنموذج الأبيسي، ويَنْشطن في مختلف مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تيك توك والإنستغرام، والفايسبوك، بالإضافة إلى موقع اليوتيوب. ولقد عرفت هذه الحركة انتشارا واسعا خلال السنتين الأخيرتين (وسنة 2024 على وجه الخصوص)، حيث أصبحت تْرِنْداً” Trend عالميا على مواقع التواصل الاجتماعي. ولم تنحصر فاعلية الحركة في حدود الولايات المتحدة الأمريكية، بل وجدت صدى لها في عدد من البلدان الأوروبية، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالإضافة إلى بعض البلدان الآسيوية، كاليابان، كما وصل صداها إلى بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

تدعو ممثلات هذه الحركة إلى تخلي المرأة عن الوظيفة، والعودة إلى الأنوثة وإلى نموذج الأسرة التقليدية القائمة على التقسيم الجنسي للأدوار كما كان سائدا في المجتمع الأمريكي في فترة الخمسينات. وهو ما يظهر من خلال الشكل الخارجي للنساء المُرَوِّجات لهذه الصورة للمرأة، من حيث الزي، وتسريحة الشعر، وطريقة الكلام، والحركة، وكذا الديكور العام المميز للفضاء الذي يُصوِّرْن فيه محتواهن. حيث تظهر المرأة التقليدية على المنصات الرقمية، في كامل أناقتها وزينتها الكلاسيكية، مرتدية ملابس تلك الحقبة الزمنية، تضع المئزر على ملابسها، وتقوم بأعمال الطبخ، والتنظيف، أو تزيين الحديقة، والعناية بالأبناء، في انتظار عودة الزوج من العمل. وهذه الصورة التي ترسمها وتروجها نساء حركة الزوجات التقليدياتتمثل، في نظرهن، دعوة إلى استعادة المرأة لأنوثتها، وأدوارها الطبيعية، كزوجة وأم.

من منظورك كباحثة في السوسيولوجيا ومهتمة بقضايا النوع الاجتماعي، ما المعاني والتفسيرات لتواجد مؤثرات يُقدِّمْنَ محتوى من أجل استعادة المرأة لأدوارها المنذورة لها اجتماعيا وثقافيا؟

يمكن قراءة وفهم هذا الواقع من زاويا متعددة، سأختصرها في ثلاثة مستويات أساسية. المستوى الأول للفهم، يمكن أن نلج إليه عبر التأمل في الوضع الاجتماعي الذي ترتَّب عن تفعيل مبدأ المساواة بين الجنسين، والذي أنتج واقعا مفارقا، اختلت فيه موازين الأدوار والمهام بين الجنسين، لصالح الرجل. حيث خرجت المرأة إلى العمل، وتقاسمت مع الزوج مسؤولية الإنفاق على الأسرة، لكنها احتفظت في الوقت نفسه بمهام رعاية الأبناء والأشغال المنزلية التي تبقى في الغالب الأعم من مسؤولية الزوجة. ويعني ذلك أنها أصبحت تشتغل بدَوامَين متصلين، دوامٌ أول خارج المنزل، ودوامٌ ثانٍ داخله، وتنتقل بينها باستمرار في عمل متواصل وممتد؛ الأمر الذي أنتج حالة من الاستنزاف النفسي والإنهاك الجسدي، أصبحت تعانيه الزوجة الموظفة أو العاملة. ويُفهم من ذلك أن تفعيل مبدأ المساواة بين الجنسين عموما، وفي أداء الأدوار داخل الحياة الزوجية، خصوصا، والذي كان يُفترض أن يكون في صالح المرأة عبر تحسين وضعها الاجتماعي والاقتصادي، أفضى بالمقابل إلى إنتاج نوع جديد من اللامساواة واللاتكافؤ على مستوى الأدوار، كانت هي الطرف الأول المتضرر منه. وهذا ما يفسر نزوع عدد من الزوجات الموظفات في العقود الأخيرة، في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء، إلى التذمر من هذه الوضعية غير العادلة، التي تكون في كثير من الأحيان سببا في بروز بعض المشاكل الزوجية التي تقود أحيانا إلى الطلاق، وتفكك بنية الأسرة. لذا، فدعوة عدد من النساء إلى استعادة المرأة لأدوارها التقليدية، تُفهم هنا كمحاولة نكوصية هدفها التخلص من هذا العبء المزدوج أو تخفيفه، والرغبة في المحافظة على الاستقرار الأسري أو دعمه، وإنجاح الحياة الزوجية، عبر البحث عن خلق جوٍّ مريح نفسيا لجميع الأطراف: للزوج والزوجة والأبناء.

أما المستوى الثاني الذي يشكل امتدادا للمستوى الأول، فأعود فيه إلى تصريحات بعض النماذج من الزوجات التقليديات النشطات على شبكات التواصل الاجتماعي، واللواتي يعتبرن أن توجههن هذا، تشكَّل كرد فعل ضد الحركات النسائية التي حاولت أن ترسم أسلوب حياة جديد للمرأة، عملت على نشره وتكريسه على امتداد عقود من الزمن، وهو النموذج الحديث القائم على المطالبة بالمساواة الكاملة بين الجنسين. ومقابل ذلك، تُقدم النساء التقليديات أسلوبهن في الحياة على أنه رفضٌ لتلك المساواة، من منطلق اختيار حر، أقْدَمن عليه بمحض إرادتهن، لأنهن يعتقدن أنه الأفضل لهن. ولا يعني ذلك بالنسبة لهن إقراراً بفكرة تفوق الرجل على المرأة، أو محاولة لتكريس ضعفها والقول بأفضليته عليها، بل هي، حسب تصورهن، مجرد دعوة إلى تقسيم الأدوار بين الجنسين بشكلٍ يتناسب وطبيعة كل منهما، على نحوٍ يسمح بالارتقاء الذاتي بالأنوثة، ورد الاعتبار للرجولة. وهذا النمط التقليدي للأسرة، كما يعكسنه عبر محتواهن الرقمي، والقائم على اعتبار الزوج رب الأسرة وحاميها ومعيلها، واعتبار الزوجة الراعية المتفرغة للبيت، هو الكفيل، في نظرهن، بتحقيق الحياة الزوجية السعيدة.

تفسر ساندرا ويتلي” Sandra Weathly الباحثة في علم النفس الاجتماعي هذا التوجه المرصود لدى الزوجات التقليديات بكونه رد فعل تجاه خصوصية الحقبة الراهنة التي تتسم بالاضطراب الاجتماعي. وهو يمثل رد فعل ارتكاسي، محكوم برؤية رومانسية لا يذكر أصحابها سوى الجوانب الإيجابية من الماضي، كدفء المطابخ، وأحضان الجَّدات”؛ لكن رد الفعل هذا، لا يمثل في نهاية المطاف، حسب ويتلي، إلا خطوة سهلة تقودنا إلى الاعتقاد أن العودة إلى مئزر جدَّاتنا، هو الحل لكل مشاكلنا.”

أما المستوى الثالث فيفتحنا على منطق اشتغال الفضاء الرقمي، والنزعة الاقتصادية الربحية التي تحكمه، والتي لا ينبغي إغفالها في هذا السياق. فعندما نأخذ بعين الاعتبار المستويين الأول والثاني، تبدو لنا حركة الزوجات التقليدياتكتوجه صاعد محركه وعيُ النساء بحقيقة أوضاعهن، ورغبة في تغييرها عبر تحويل الفضاء الرقمي إلى منصة لإعادة إنتاج التقسيم الجندري التقليدي للأدوار، وإعادة نشره كثقافة اجتماعية ترمي إلى استعادة القيم التقليدية للأسرة. لكن الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي: هل الصورة الرقمية للزوجات التقليدات، كما تعكسها الناشطات داخل شبكات التواصل الاجتماعي تحيل بالفعل إلى وضعية حقيقية تستعيد فيها المرأة أدوارها التقليدية؟ وهل المرأة في هذه الحالة استقالت فعلا عن العمل المأجور، أم أنها غيرت فقط مقر العمل وشكله؟ وهل تقوم فعليًّا بتلك الأدوار المنذورة لها اجتماعيا وثقافياوفق التصور التقليدي لتقسيم الأدوار، أم أنها تنذر لها نفسها فقط لحظة تصويرها لمقاطع الفيديو، وخلال النقل المباشر لمشاهد من حياتها اليومية، لكنها سرعان ما تتخلى عنها بمجرد أن تنطفأ أضواء آلة التصوير.؟ ذلك أن ما ينبغي استحضاره دائما ونحن نفكر في المحتوى الرقمي هو أنَّ مَشاهد تقاسم الأدوار، كما تنقلها النساء التقليدياتفي فيديوهاتهن، تظل صورا مصطنعة، تنقل لنا وضعيات اجتماعية مبنية، أُعِدَت بعناية، وخُطط لمَشاهدها قبليًّا. وكما يقال: هناك فرق بين الواقع والمواقع. لذلك فالدراسة العلمية، والحكم الموضوعي على مدى صدقية الأفكار التي ينقلها المحتوى الرقمي، يحتاج أوَّلاً أخذ المسافة الموضوعية اللازمة مع موضوع الملاحظة، والتسلح بالعين النقدية التي تفحص بعناية، وتشك، وتسأل، وتسائل، قبل أنْ تستنتج.

ونحن نناقش ثل هذا القضية المعقدة، يُطرح سؤال ذو طبيعة جدلية حول هاجس الفكريفي مقابل الربحيعن طريق جلب المشاهدات والرفع منها، كيف تفسرين هذه الجدلية؟

بالفعل، هذا ما قصدته بالضبط من التساؤلات التي أثرتها سابقا؛ لأنَّ تأمل المنطق الذي أصبح يحكم صناعة المحتوى الرقمي يفتحنا بالضرورة على جدلية الفكري والمادي، أيهما المستهدف بالدرجة الأولى. وعليه، فإن الأسئلة الذي تطرح هنا هي: هل نساء حركة الزوجات التقليدياتفي صيغتها الرقمية، تحيل بالفعل على نساء تقليديات؟ هل يبحثن بالفعل عن إعادة إحياء القيم المحافظة للأسرة، أم أن هدفهن ربحيتجاري صرف؟ وهل يُؤْمِنَّ، حقيقةً، بالأفكار التي يُرَوِّجن لها، بحيث تشكل بالنسبة لهن ممارسة فعلية ومستمرة تحكم حياتهن اليومية داخل الشاشة وخارجها، أم أن شاشات العرض ما هي إلا مجرد واجهة تسويقية محكومة بأهداف رأسمالية تؤطرها النزعة الاقتصادية المحضة التي تحرك معظم المشتغلين والمشتغلات بصناعة المحتوى الرقمي؟

فمن المعلوم أن الزوجات التقليديات اللواتي ينشطن على مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، يندرجن ضمن ما يُصطلح عليه اليوم بالمؤثرات“. لذلك فإن ما يُقدِّمنه على أنه عمل غير مأجور، هو في حقيقته نشاط ربحي، يندرج ضمن صنف المهن الجديدة التي ترتبط بصناعة المحتوى الرقمي. لذلك وهن يُوَثِّقن أنشطتهن المنزلية اليومية يَكُنَّ حين ذاك بصدد ممارسة عمل يتقاضين عليه أجرا شهريا.أي أنهن حوَّلْن أدوارهن المنزلية، إلى مهنة حقيقية مُدِرة للدخل، وقد يتقاضَيْن عنها أحيانا مبالغ مالية طائلة، تتجاوز حتى ما يكسبه الزوج من وظيفته؛ بل إن الزوج نفسه قد يشكل جزءا وشريكا في هذا العمل، وذلك عندما يتفرغ لدور تصوير الزوجة وهي تقوم بأنشطتها المنزلية، وعندما يتكلف بمهمة إعداد وتوضيب الفيديوهات، وإدارة حساباتها على مختلف المواقع الإلكترونية، والتواصل مع المستشهرين، وغيرها من المهام التي ترتبط بصناعة المحتوى الرقمي. ويفيد ذلك أن ما يُقدَّم كعملٍ منزلي مجاني، تبدو معه المرأة كمجرد تابعة للرجل ماديا، هو في حقيقته، عمل مأجور يحقق لها الاستقلالية المادية، ويحررها من التبعية للزوج، الذي قد يصبح هو نفسه تابعا له، معتمدا عليها ماديا، أو شريكا لها. ويمكن أن نستحضر هنا على سبيل المثال نموذج إحدى المؤثرات من الزوجات التقليديات، وهيحنا نيلمانوهي شابة أمريكية في الخامسة والثلاثين من العمر، وصل عدد متابعيها إلى عشرة مليون متابع ومتابعة على الإنستغرام، وعشرة مليون على التيك توك. وتدير رفقة زوجها مقاولة فلاحية باسم Ballerina Farm والتي تحيل إلى المزرعة التي يمتلكانها، وتشكل في الوقت نفسه موضوع المحتوى الرقمي الذي تنشره حنا نيلمانبشكل شبه منتظم على تيك توك والإنستغرام، وتنقل عبره في فيديوهاتها يومياتها في المزرعة رفقة زوجها وأبنائها الثمانية. ولقد تحولت بالينا فارمإلى علامة تجارية، تُسوَّق منتجاتها عبر موقع إلكتروني خاص، تَبيع فيه حنا نيلمان كل ما يُنتج داخل المزرعة، وما يُستورد من خارجها كذلك.

إن ما أود قوله إذن، وبإيجازٍ شديد، في هذا المستوى، هو أن التأكد من حقيقة الممارسات المرتبطة بحركة النساء التقليديات يقتضي الانطلاق من البحث في تمظهراتها داخل الفضاء الرقمي والميدان الفيزيقي على حد سواء، قصد قياس الفارق بين الواقع والمواقع، ومعرفة ما إذا كان الأمر يتعلق بمجرد موجة رقمية عابرة، محكومة بمنطق صناعة المحتوى، والرغبة في بناء الثروة، أم أنها انعكاس لحركة فعلية، تحددها قناعات فكرية، وتترجمها ممارسات حقيقية، تستهدف تغيير البنية الاجتماعية، ممثلة في الأسرة، والأنظمة العلائقية السائدة داخلها، عبر إحياء القيم والممارسات التقليدية. أي أنها حركة وُجدت لأجل أن تبقى، وتتطور، وتستمر داخل المجتمع.

بلا شك، أن للظاهرة آثار على الحركات النسائية والناشطات النسائيات. فكيف تستقبل هذه الأخيرة ظاهرة الزوجات التقليدياتالمنتشرة على الوسائط والمنصات الرقمية؟

كما سبق وأشرت، ظاهرة الزوجات التقليدات، أو النساء التقليداتعموما، هي حركة رقمية تشكلت ونمت داخل مواقع التواصل الاجتماعي، وقامت على أساس رفض تصورات النسوية الحديثة ومناهضة أفكارها. فإنْ كانت الحركات النسائية، عموما، قد رفعت شعار المساواة بين الجنسين وتحرير المرأة من التبعية للرجل، عبر الدعوة إلى تحقيق الاستقلالية المالية والاعتبارية للنساء من خلال الدفاع عن حقوقهن الاجتماعية والمدنية والسياسية؛ فإن حركة النساء التقليديات بالمقابل، اعتبرت أن النزعة النسوية قد جَرَّدت النساء من أنوثتهن، وحرمتهن من أداء الأدوار المنذورات لها بحكم طبيعتهن؛ لذلك فإنهن رفعن دعوى مضادة، شعارها: “فلنجعل ربات البيوت التقليديات عظيمات من جديد” Make Traditional Housewives Great Again. وبناء عليه، فإن رائدات حركة الزوجات التقليديات يَريْن أن طريق المرأة للسعادة يكمن في إبراز كل أوجه أنوثتها، أو تحري طريق الأنوثة المثالية بالشكل الذي سبق ووصفته هيلين أندلين في كتابها الأنوثة الرائعةالصادر سنة 1963، وذلك عبر النزوع نحو التبعية للزوج، والخضوع التام لسلطته. وهذا التصور هو نفسه الذي عبرت عنه إحدى ممثلات هذا التوجه وهي ديكسي أنديلين فورسايثفي حوار لها مع موقع ستايلِستStylist أقرت فيه أن حركة الزوجات التقليديات: برزت لأن النساء ضِقْنَ ذرعا بالنسوية، سواء في بريطانيا أو خارجها، إننا نقول للنسويات: شكرا على السراويل، لكننا نرى الحياة بشكل مختلف.” وهو التصريح الذي ردت عليه المحامية والناشطة النسائية آن أوليفاريوسبالقول: “ليست السراويل فقط يا عزيزتي، بل الحساب البنكي المفتوح باسمك، وحقوقك في التصويت، والتجريم لفعل العنف، أو الاغتصاب، اللذين قد يرتكبهما زوجك في حقك. وهذه فقط مجرد عينة بسيطة من الأشياء التي يمكن أن نجردها“. لذلك فإن تصريحات النساء التقليديات القائمة على الدعوة إلى طاعة الزوج، والخضوع الكامل له، والسهر على خدمته، باعتباره السيد، والمهيمن على الزوجة، وصاحب القرار النهائي، وغيرها من الأفكار والشعارات التي رفعتها حركة النساء التقليديات، تعرضت للنقد اللاذع من قبل الناشطات في الحركات النسائية اللواتي اعتبرنها مجرد صدى لأفكار اليمين المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يسعى مُرَوِّجوها، في نظرهن، إلى تقويض المكاسب التي تحققت لصالح النساء عبر نضال طويل وشاق من قبل الحركات النسائية وهيئات المجتمع المدني.

في السياق المغربي، نجد ظواهر بالعالم الرقمي قريبة أو مشابهة أو مماثلة مثل روتيني اليوميوما شابهها، ما هي أوجه التشابه والاختلاف، وما هي أبرز التداعيات المترتبة عنها؟

بالنسبة للفكرة العامة التي تؤطر حركة النساء التقليديات، أي الدعوة إلى تخلي المرأة عن حلم الوظيفة، أو ترك وظيفتها القائمة، قصد التفرغ لرعاية الزوج والأبناء، إذا ما أخذناها كفكرة معزولة بغض النظر عن الإطار الذي تندرج داخله؛ فإننا نجد ما يماثلها داخل المجتمع المغربي الذي عرف في السنوات الأخيرة بروز دعوات من هذا القبيل تندرج في سياق حملات إلكترونية لها نفس التوجه الفكري، كما هو الشأن مع الحملة التي برزت بشكل كبير خلال سنتي 2023-2024 على شبكة الفايسبوك تحت شعار لا تتزوج موظفةوالتي تدعو الرجال المغاربة إلى مقاطعة الزواج من النساء الموظفات، وتشجعهم على إلزام زوجاتهن الموظفات بترك وظائفن قصد التفرغ لتدبير شؤون البيت والسهر على متطلبات الزوج والأبناء، وذلك على اعتبار أن هذه هي الأدوار التي خُلقت المرأة لأجلها، وأن البيت هو مكانها الطبيعي. ولقد اتخذت هذه الحملة أبعادا جد متطرفة، عندما أصبحت تقوم على التشهير الإلكتروني بالنساء الموظفات، والتحريض على الكراهية ضدهن، والإساءة إلى سمعتهن بمختلف الطرق، الأمر الذي حذا بعدد من الجمعيات الحقوقية إلى إصدار بيانات تنديدية تنتقد دعاة هذا التوجه باعتباره يقوم على تكريس ثقافة احتقار المرأة، ويمس بكرامة النساء وحقوقهن الاجتماعية، والمدنية.

ويحيل هذا التوجه الذي برز في الفضاء الإلكتروني بالمغرب على ظاهرة اجتماعية مركبة، وسياقية، ترتبط بظروف مجتمعية محلية، بدأت في التشكل منذ العقد الماضي. وترتد بالأساس إلى التفوق الدراسي والأكاديمي المتزايد للإناث مقارنة بالذكور، والذي أصبح يسجل، وبشكل ملحوظ، في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص؛ والوضعية التي صارت تحوزها المرأة المغربية في سوق الشغل والتي أصبح يُنظر إليها كنوعٍ من المنافسة المهنية المتزايدة التي أضحت تحد، في نظر الذكور، من فرصهم في التشغيل. هذا مع ما نتج عن كل ذلك من تحولات مست بنية الأسرة ومنظومة القيم، والتمثلات السائدة حولهما، وارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب، بالإضافة إلى عدد من الأسباب الأخرى التي يتداخل فيه الاقتصادي والاجتماعي والديني؛ ولا مجال هنا لاستعراضها والوقوف عند مختلف تشعباتها. لكن ما أود أن أشير إليه هنا، هو أنه بقدر ما أن هذه الحملة الإلكترونية، وغيرها، تتقاطع في توجهها العام مع حركة النساء التقليديات بخصوص الوضع المفترض للمرأة، والتقسيم الجنسي للأدوار والمهام، وكذا في نقدهما للحركات النسائية، فإن النقطة الأساسية التي تظل مثيرة للاهتمام وتصنع الفارق بينهما، هي أن هذه الحملة الإلكترونية التي برزت في المغرب، والتي تنتصر لصورة الزوجة التقليدية، كان زعماؤها والفاعلون فيها والمروجون لها، رجالا، ولم يكونوا نساء.هذا وإن كانت هناك فئة من النساء المغربيات قد وجدت نفسها في هذه الدعوة ودعمتها.

أما بالنسبة لظاهرة روتيني اليومي، بالمغرب، وإنْ كانت دائرة الفعل فيها تنحصر بالأساس ضمن فئة النساء، فإنَّ هناك اختلافات كبيرة تفصل بينها وبين حركة النساء التقليديات، لعدة اعتبارات. إذْ هناك اختلاف مسجل في طبيعة المحتوى الرقمي الخاص بالروتين اليومي، والفئة التي يستهدفها، خاصة عندما نستحضر ذلك الصنف منه الذي يخرق الضوابط الأخلاقية المتعارف عليها داخل المجتمع، أي ما يتعلق بالاستعراض الجنسي الرقميالعمومي لأجل الربح المادي. أما بالنسبة ل الروتين العادي” (المسمى: “الروتين النظيفأو الروتين النْقِيبالدارجة المغربية)، أي الذي يراعي الضوابط الأخلاقية للمجتمع، فهو وإنْ كان يتقاطع في محتواه مع محتوى حركة النساء التقليديات في المجتمع الغربي، فإنهما يختلفان عن بعضهما من حيث الأسباب الموجهة لصانعاته، وخلفيتهن. حيث إن الأسباب التي كانت وراء بروز ظاهرة روتيني اليومي، في الفضاء الإلكتروني المغربي تختلف كليا عن نظيرتها التي كانت وراء بروز حركة النساء التقليديات، فالأولى كانت، ولا تزال، محكومة بأسباب مادية في الغالب الأعم، ولم يكن محركها في الأساس هو الإيمان بقناعات فكرية أو توجهات أيديولوجية، يُستهدف من ورائها إحياء قيم أَفُلَت في بيئتها الاجتماعية، كما هو الشأن في المجتمع الأمريكي، مَشتل الحركة.

كما أن ظاهرة روتيني اليوميفي المغرب لم تبرز، في بدايتها على وجه الخصوص، ضمن فئةٍ من النساء يَحُزْن وضعية اعتبارية متميزة داخل المجتمع، ولهن مسارات أكاديمية ومهنية ناجحة، وقرَّرْن، مع ذلك، التخلي عنها طوعاً قصد المكوث في بيوتهن والعودة إلى ممارسة الـأدوار التقليدية المسندة إليهن اجتماعيا، وجعْلها موضوعا للتوثيق الرقمي، كما هو الشأن مع نساء حركة الزوجات التقليديات في المجتمعات الغربية؛ وإنما الأمر على العكس من ذلك تماما. إذن أن غالبية النساء المغربيات اللواتي انخرطن في إنتاج المحتوى الرقمي للروتين اليومي، كنَّ في الأصل، ربات بيوت، أي نساء تقليديات، عَمدْن إلى تقاسم خبراتهن في تدبير الشؤون المنزلية (الطبخ، ترتيب البيت، الأعمال اليدوية، اللباس، الأمور الجمالية، تقديم النصائج…) وذلك بعد أدْرَكن أنَّ هذا التقاسم هو سبيلهن للخروج من وضعيتهن الأسرية الهشة، أو وضعية التبعية المالية للزوج، وخلْق مصدر للدخل، بغض النظر عن حجمه. ويعني ذلك أنهن انْطَلقن في المادة الرقمية التي يُنْتِجْنَها من وضعية تقسيم الأدوار التقليدية ‘الأصيلة’ التي يعشنهاـ، ولم يصطنعنها، ولم تشكل صناعة المحتوى ذريعة للعودة إليها. أي أن الانخراط في صناعة المحتوى شكل بالنسبة لهن نوعا من التمكين الاقتصادي، وانتقالا من وضعية المرأة التقليدية التابعة للزوج ماديا إلى وضعية المرأة المستقلة ماليا، أو المُعيلة للأسرة، بشكلٍ يمثل انتقالا معكوسا بالقياس إلى الانتقال المسجل في وضعية حركة النساء التقليدات في نسختها الغربية. ويمكنني القول، بشيء من التحفظ، أنَّ الأولى تمثل ‘انزياحا’ عن الأصل، والثانية تمثل عودة إلى الأصل؛ والأصل هنا مفهوما كبناء اجتماعي لا كوضعٍ طبيعي.

وأود أن أشير ختاما إلى أنه وإنْ كانت بعض ممثلات حركة النساء التقليديات تقر أن أحد أوْجُه اعتراضهن على دعاوى الحركات النسائية هو أنها انتهت إلى السقوط في نوع من الدغمائية التي قادتها إلى محاولة فرض رؤية أحادية، ونمط واحد للحياة على النساء، وغلق باب الاختيار أمامهن؛ فإن حركة النساء التقليديات تواجِه هي الأخرى خطر السقوط في الدغمائية والأحادية نفسها، عندما تفترض أن هناك مسارا واحدا للمرأة إذا ما أرادت أن تضمن لنفسها الحياة الزوجية الناجحة، وعندما تجعل الأدوار المبنية اجتماعيا، أمرا طبيعيا، تحدده البيولوجيا لا الثقافة. لذلك فإن هذا التوجه، الذي يمكن أن أسميه بالنسوية الأصولية، إذا ما نظرنا إليه كاختيار حر، وكأسلوب في الحياة، فإن ميزته تكمن في تثمينه للعمل المنزلي، عبر الاعتراف به، ماديا ورمزيا، سواء عندما يتخذ صورة محتوى رقمي، ويتحول إلى صناعة، ومصدر للدخل، أو عندما يُعترف به كجزء من دينامية خلق الثروة داخل مؤسسة الزواج، شأنه في ذلك شأن أي عمل يُمارس خارج البيت. لكن مع ذلك، تظل الدعاوى الرومانسية لحركة النساء التقليديات، تطرح أخطارا ورهانات تتعلق بإمكانية تجديد ودعم آليات الهيمنة الذكورية وتكريسها على نحو عمومي وشرعنتها، والتراجع عن الحقوق والمكتسبات التي تحققت للنساء بعد نضال طويل، كإمكانية حرمان المرأة من الحق في التعليم والحق في العمل، مع ما يرافق ذلك من تكريس لهشاشة وضعية النساء؛ خاصة إذا ما شاع هذا التوجه داخل مجتمعات تؤمن فيه الشريحة العريضة من المجتمع بوجود تراتبية طبيعية بين الجنسين، وبأفضلية للذكر على الأنثى، وتبحث باستمرار عن حجج لشرعنة ذلك الاعتقاد وتبريره. كما أن إملاءات الواقع بشروطه المادية تظل أقوى من الصور الرومانسية حول الحياة السعيدة التي تقدمها عادةً شبكات التواصل الاجتماعي التي تَعرِض الواجهة الأنيقة وتُخفي فوضى الكواليس. لأن الصورة المثالية التي تَظهر بها النساء التقليديات في المنصات الرقمية، كنساء أنيقات، يعشن حياة الرخاء والرفاهية، جراء الحياة الكريمة التي يوفرها الأزواج أو يحققنها عبر مداخيل صناعة المحتوى الرقمي، تظل اختيارا غير مطروح لجميع النساء، حتى وإنْ رَغِبْن فيه، وترفاً غير متاح لهن، خاصة اللواتي تجبرهن أوضاعهن، قسرا، على الخروج إلى سوق العمل كنتاج لحالة الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي يكابدنها رفقة أزواجهن، أو بدونهم، في الأسر ذات الدخل المحدود أو المنعدم.

About Post Author