المخرج إدريس المريني و فيلمه “جبل موسى” في ضيافة كلية الآداب بالمحمدية
بقلم أحمد سيجلماسي
في إطار انفتاح الجامعة على محيطها الثقافي والفني، وبعد ثلاثة لقاءات تباعا مع المخرجين محمد مفتكر وحكيم بلعباس ومحمد عبد الرجمان التازي، ينظم ماستر “الدراسات المسرحية” بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، برعاية من عمادة الكلية وبتنسيق وتأطير من الدكتورين أحمد توبة والحبيب ناصري، لقاء رابعا هذه المرة مع المخرج إدريس المريني، مباشرة بعد عرض فيلمه السينمائي الجديد “جبل موسى”، وذلك يوم الخميس 7 مارس 2024 ابتداء من الرابعة بعد الزوال بقاعة فاطمة المرنيسي.
فيما يلي ورقة تعرف بالفيلم ومخرجه:
اشتغل إدريس المريني (73 سنة) في هذا الفيلم على تيمة الصداقة بين رجلين شابين حكيم ومروان، تفرق وتجمع بينهما أمور، لكل منهما نظرته الخاصة للعالم وفلسفته في الحياة، لكن حب الموسيقى (والفنون عموما) والفلسفة (أو المعرفة بشكل عام) وقراءة الكتب الأدبية والفكرية هو قاسمهما المشترك. يتقرب مروان (أستاذ الاجتماعيات بالتعليم الثانوي، يحضر أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة) شيئا فشيئا من عوالم حكيم (الطالب سابقا بكلية الطب) وتتمثن أواصر الصداقة بينهما إلى درجة يفتح كل منهما قلبه للآخر، الشيء الذي يسهل عملية البوح لتنكشف جوانب من الأسرار.
ولعل اشتغال مخرجنا السلاوي المولد على هذه التيمة الجديدة هو الذي جعل فيلمه السينمائي الروائي الطويل الخامس “جبل موسى” (2022) مختلفا عن أفلامه السابقة، “لحنش” (2017) و”عايدة” (2014) و”العربي” (2010) و”بامو” (1983)، نظرا لطابعه الصوفي ونفسه الفلسفي. فهذا النفس الفلسفي يبدو جليا من خلال الحوارات التي تجري بين الصديقين حكيم ومروان حول الوجود والدين والفن وغيرها من المواضيع التي شغلت الفلاسفة والمفكرين والعلماء منذ القدم، ومن خلال عناوين بعض الكتب التي تم بها تأثيث مكتبة حكيم (كتب نيتشه و كانط والمعري والبخاري دوستويفسكي…) واللوحات التشكيلية وصور الفلاسفة وبعض الأكسسوارات التي تزخر بها جوانب غرفته…
يتميز فيلم “جبل موسى” بعمقه الفكري وجرأته في تناول قضايا مسكوت عنها في السينما المغربية تتعلق بالإيمان والإلحاد، كما يتميز بغنى حواراته التي تحضر فيها التساؤلات الفلسفية وأقوال وآراء الفلاسفة والمتصوفة والأدباء من عيار فريدريك نيتشه ومحيي الدين ابن عربي وفيودور دوستويفسكي وأبو العلاء المعري وغيرهم. هذا بالإضافة إلى طريقته المحكمة في السرد وتصعيده الدرامي المشوق، خصوصا بعد وفاة الأم فتيحة، ونهايته المفتوحة على الأمل والحب والإيمان. ومما شد المتلقي إلى الفيلم سيناريوه المحبوك والقوي، المأخوذ عن رواية “جبل موسى” (2016) للمبدع عبد الرحيم بهير، بتسلسله المتماسك ومزجه بسلاسة بين أحداث الحاضر والماضي عبر “فلاش باك” تم توزيع تفاصيله بعناية مركزة على امتداد زمن الفيلم، الشيء الذي جنب المتلقي الشعور بالملل، كما هو شأن الكثير من الأفلام المغربية وغيرها.
بالإضافة إلى طل ذلك هناك مسألة “الكاستينغ” والتشخيص وإدارة الممثلين، فجل الممثلين (يونس بواب، عبد النبي البنيوي، حسن فولان، عبد اللطيف الشكرة، عمر العزوزي) والممثلات (السعدية أزكون، سهام آسيف، هاجر بوزاويت، فايزة يحياوي) كان في اختيارهم وأدائهم وإدارتهم تفوق ملحوظ، الشيء الذي توج بحصول بطل الفيلم يونس بواب (في دور حكيم) على جائزة أفضل ممثل في مسابقة الدورة 22 للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة سنة 2022، رغم أن عبد النبي البنيوي كان هو الآخر يستحق جائزة عن أدائه التلقائي المتميز لدور مروان. أما الممثل المراكشي عبد اللطيف الشكرة فينبغي التنويه به وبأدائه المقنع بدرجة كبيرة في هذا الفيلم، فمن خلاله نجح المخرج إدريس المريني في توجيه نقد لاذع للمتاجرين بالدين، الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الآخرين عبر استغلالهم لسذاجة البسطاء من الناس، وأظهرهم في صورة كاريكاتورية لا تخلو من مسحة كوميدية.
من التفاصيل الأخرى، التي دأب المخرج المريني على العناية بها، مسألة الموسيقى التصويرية. فمقاطعها تم اختيارها بعناية فائقة من خلال تعاونه الخلاق مع الفنان الموسيقي الشاب يوسف الصديقي والمطربة سلوى الشودري، التي أمتعتنا بصوتها وأدائها الجميلين في نهاية الفيلم (عبر الجنيريك) بأغنية أصيلة كلامها للمتصوف ابن عربي صاحب نظرية وحدة الوجود. لقد كانت المقاطع الموسيقية الغربية أو العربية الموظفة في بعض المشاهد أو المصاحبة لها ذات وظيفة تبليغية/تعبيرية أي مترجمة لمشاعر وأحاسيس داخلية وعاكسة لحالات مزاجية/نفسية كان يمر منها بطل الفيلم حكيم، ولم تكن مجانية أو محشورة في الفيلم حشرا، كما يفعل البعض، وإنما كانت تشكل عنصرا من عناصر التعبير السينمائي إلى جانب العناصر الأخرى كاللباس والديكور والماكياج والإنارة…
مدة الفيلم الأصلية تقارب 100 دقيقة، ورغم ذلك لا يشعر المتذوق لهذا النوع من الأفلام بأي ملل. ربما يرجع سبب ذلك إلى المونطاج، الذي أشرفت عليه الموضبة مريم الشاذلي بمعية المخرج، فقد بذل مجهود ملحوظ على هذا المستوى، الشيء الذي جعل إيقاع الفيلم ليس بالسريع أو البطيء وإنما كان إيقاعا متوازنا.
ومما زاده متعة انفتاح الكاميرا على فضاءات طبيعية خارجية جميلة بمدينتي سيدي إفني ومير اللفت، وفي هذا نوع من السبق، إلى جانب فضاءات العاصمة الرباط، علما بأن كل لقطات الفيلم الداخلية والخارجية من توقيع مدير التصوير الفرنسي كزافيي كاسترو (زوج الممثلة المغربية ماجدولين الإدريسي)، الذي سبق له أن صور الفيلم السابق لإدريس المريني “لحنش” (2017).
خلاصة القول أن المايسطرو إدريس المريني تمكن، عبر إخراجه لهذا الفيلم الجديد، من التوفيق بين مختلف عناصر التعبير السينمائي وخلق الإنسجام الضروري بينها لتكون النتيجة النهائية فيلم ممتع فكريا وبصريا وسمعيا.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أن مخرج “جبل موسى”، الذي واكبنا أعماله السينمائية والتلفزيونية منذ انطلاقته الأولى، يتطور من فيلم سينمائي إلى آخر وينوع في المواضيع التي يشتغل عليها في أفلامه السينمائية بالخصوص. فبعد “بامو” (1983)، عن مقاومة المستعمر الفرنسي، و”العربي” (2010)، عن حياة ومنجزات أيقونة كرة القدم المغربية والدولية الحاج العربي بنمبارك، و”عايدة” (2014)، الذي لقي استحسانا ملحوظا لدى النقاد والجمهور الواسع وحصد مجموعة من الجوائز هنا وهناك، و”لحنش” (2017)، الذي أحتل بطابعه الكوميدي الرتبة الأولى في شباك التذاكر لموسمين متتاليين، جاء “جبل موسى” (2022)، وهو فيلم نخبوي، ليؤكد أن مخرجه فنان مرهف الإحساس ومتمكن من أدوات التعبير السينمائي.
المخرج ادريس المريني