الزوبعة.. بقلم حميدة جامع
حميدة جامع
الزوبعة
يقبع في سفح الجبل، يرفل في بياض الصمت وقد نبت التعب في جفونه وأزهر، وغفا معه ثم صحا في انتظار تساقط نوع رفيع من الصخور… صخور متشابهة يتغير لونها كلما دنت من الأرض ….
ابنة خالته التي تتقن فنّ العيطة وخصوصا فن أَعَيُّوعْ الجبلي كانت قد انتهت للتو من الحصاد، يدها اليمنى تبقيها في وضع المتأهب لحمل المنجل طيلة الوقت ….. تقول ضاحكة: لا حظّ لي مع الرجال.. لا أحد يتزوج هذه الأيام…..
تهيم الشمس في السماء فتهوي وراء الجبل تائهة مسلِّمَة مقاليد الكون للدجى، فيقفل عائدا إلى منزله.
في طريق العودة، التقى شيخ القرية فنصحه بالزواج من ابنة خاله السعدية التي صارت عانسا والابتعاد عن عادة انتظار تساقط الصخور.
في صغره، سبق له أن توارى عن الأنظار صحبة السعدية …يوم عقيقة أختها ….
كانت عنيدة، سريعة الغضب، تصعب السيطرة عليها …لم تصل شفتاه إليها بعد، حتى صرخت بقوة، فتمّ إخراجهما من تحت المائدة حيث كانا يختبئان وانهالت عليهما الركلات والصفعات ….. منذ ذلك الوقت كره اجتماع العائلة …. ووجوه أولاد خالته كلها…كان يتفادى اللقاء بهم. لا بل، أصبح يكره الأعياد والمناسبات العائلية جميعها.
يتذكر حينها ابتسامة السعدية الصفراء وهي تصفع وتركل ولم يعرف لحد الآن سببها …لم تذرف دمعة واحدة.. لم تبد خوفها أو ندمها …لم تحتج …لم تتحدث في الموضوع ولا يظن أنها فعلت يوما.
بعد تلك الحادثة، التقيا مرارا في المراعي وعند السقاية، لكنهما لم يقتربا من بعضهما البعض، ولم يتحدثا قط.
في المساء، امتلأت السماء غيوما عقيمة واكفهرّ الجو، في تلك اللحظة قرر الرحيل.
بعد مدة من الزمن، سمع أن رجال القرية كلهم قد رحلوا ليلا …. وأن السعدية أدمنت أعيُّوع وسرعان ما انتقل الداء واستفحل بين نساء القرية ….وذات صباح ارتفع صوتهن وعلا ثم دوّى في الأرجاء مشكلا زوبعة رملية أحاطت خصر الجبل كما الأفعى، وأجبرت الصخور على التساقط من أعلى الجبل …ألوانا وأشكالا …. فرادى وجماعات …..
لكنه كان قد هاجر ولم يعد يفكر في العودة.