بقايا.. بقلم غادة الأغزاوي
غادة الأغزاوي
بَقَايَا
كانَ يجلِسُ أمامَها، منْ دونِ حركَةٍ. يجلِسُ ويتطلَّعُ إلى يَديْها، يُتابعُ باهتمامٍ حرَكات أَصابِعها وهيَ تخترقُ الهَواءَ. كانَ اختِراقاً موسيقيّا. كانَيتابعُ ذلكَ العزْفَ منْ دونِ أنْ يُحاولَ مُقاطَعَتهُ بسؤالٍ أو نظْرَةٍ فضوليَّةٍ للأحداثِ التي تُروى أمامَهُ.
فتنةُ الألَمِ قدْ تُلهينا عنْ عظَمتِهِ، كانَ يردِّدُ ذلكَ.
كانتْ هيَ تجلسُ أمامَهُ، كائنٌ حيٌّ مستَسْلِمٌ للسَّردِ ولبَقاياَ حُطامٍ حَديثٍ. تتحدَّثُ بلسَانِها وعَينيْها ويَديْها. كانتْ دقيقَةً في إشْراكِ أصابِعها فيالسّرَدِ كلِّهِ، في حالاتِ السَّردِ كلِّها، فكانتْ تبدو تلكَ الأصابع ُكما لو أنّها نايات قصبيَّةٌ طَريَّةَ الإلتئامِ. نايات لها لغَةٌ خاصَّةٌ بِها و لَها كذلكَكُسورٌ فاتنَةٌ لكنَّها لمْ تكنْ تنتبهُ إلى كلِّ هذهِ الأَشياء.
– قرأتُ ” الجُرحُ وحدَهُ أصلُ الجمالِ “، هلْ هذا يُعقلُ؟! ألا يمكنُ للجَمالِ أنْ ينبعَ منْ شيءٍ آخرَ؟
أشياءٌ بشِعَةٌ كثيرةُ قيلَتْ لي. وهيَ تنطِقُ بهذهِ العبارَةِ مرَّرتْ أصابِعَها على جَبينِها، ثمَّ غطَّتْ بها عينيَْها كأنَّ ضوءاً يحْرِقُهُما، إلى أن انتَهتْبوضعِها على شفَتَيها.
أشياءٌ بشعَةٌ كثيرَةُ قيلَتْ لكِ. كيفَ نتخلَّص من البَشاعةِ في رأيِكِ!؟
لا نتخلَّصُ. ( أصابِعُها إبَرٌ مغروسَةٌ في شَفَتَيها).
لا نتَخلَّصُ. ( تبيَّنَ أنَّ ما كانَ يحرقُ عينيْها لمْ يكنْ ضوءاً).
– قرأتُ ” إذا انطَلقْتَ في الحَديثِ، سيتوجَّبُ عليَّ أنْ أخيطَ فمكَ“.
قدْ نَفعلُ هَذا بالدُّمى.. لكنَّ الرَّجلَ الذي أحْببتُ لمْ يكنْ دُميَةً. لقدْ كانَ صَخراً ..
لقدْ كانَ صَخراً. ( أصابِعُها تنكمِشُ في قبضَةٍ على قَلبِها).
فتنةُ الأَلمِ قدْ تُلهينا عنْ عظَمتِهِ، كانَ يردِّدُ ذلكَ. يردِّدُ ذلكَ لنَفسِهِ فقط، كيْ لا يُحرِجَ أصابِعَها. في رأيِي، باستِطاعَتِك أنْ تتخلَّصي منْ تلكَالبشاعَةِ كلِّها.
أسْتطيعُ أنْ أعبُرَ إلى نفْسِي، أنْ أعبُرَ إلى الدّاخل أقصدُ. (أصابِعُها تسْقطُ منْ فجَوَةِ عُنقِها حتّى وسط صدرِها). كأنَّ رحلَةَ العبورِ تبدأُ بشقِّالقفَصِ الصدريِّ، فَتحِهِ تَماماً، والولوجِ إلى كلِّ ما اسْتُتِرَ فيهِ، ذلكَ الشَّيءُ المُقرِفُ بالأخصِّ، مَعْسِهِ وسَحقِهِ وانتِشالِهِ وهو َيتقطَّرُ لَزِجاً، حتَّىيَسكُتَ، يَسْكُتَ عنِ الألَمِ أخيراً، حتّى يسكتَ ذلكَ الشَّيءُ المُقرفُ إلى الأبَدِ. لنْ يدخلَ أحدٌ ما إلى هُنا. لمْ يعدْ يوجدُ شيءٌ. لم يعُدْ يوجَدُ مكانٌبالأساسِ.
– قرأتُ ” كمْ منَ الفِخاخِ ظلَّ فيها بقايَا منْ شَعْري“.
هلْ هكَذا، أكونُ قدْ تَخلَّصتُ منَ البشاعَةِ؟
لا.. لا تُجِبني.
لمْ يعدْ يوجَدُ مكانٌ بالأساسِ. ( أصابِعُها تعزِفُ في الهواءِ.. بلا نِهاية).
غادة الأغزاوي قاصة مقيمة بباريس