ظاهرة التفوق الدراسي للإناث.. رؤية استشرافية

سعيد الحجي 

أثبتت نتائج الأبحاث حول الذكاء أنه لا يوجد فرق في مستوى الذكاء بين الجنسين، وكل ما لوحظ من تفاوتات طفيفة في بعض الاختبارات كان فقط بسبب عوامل وتأثيرات اجتماعية واقتصادية ونفسية وفي أوساط استثنائية. هذه البديهية العلمية تدفعنا للتساؤل عن سر تفوق الإناث في المدراس المغربية في السنوات الأخيرة، والسؤال الأهم هو معرفة انعكاسات هذا التفوق الأنثوي على وضعية المرأة داخل المجتمع والتغييرات المحتملة التي يمكن أن تطال بنية المجتمع المغربي على المدى المتوسط والبعيد.

تشير نتائج امتحانات الباكالوريا في المغرب برسم السنوات الخمس الأخيرة إلى اكتساح التلميذات للمراتب العشر الأولى ضمن أعلى المعدلات الوطنية وتفوق واضح للإناث على الذكور بنسب وصلت إلى57% من مجموع الناجحات والناجحين، وتزيد هذه النسبة في بعض الدول العربية على 65%. لكن الشيء المحقق في هذه الظاهرة كونها ظاهرة عالمية وليست مقتصرة على المغرب أو الدول النامية.

في المغرب يمكن اعتبار هذه الظاهرة طارئة ومستجدة على المدرسة المغربية على اعتبار أنه بعد سنوات طويلة من محاولات الدولة تعميم التعليم بالقرى النائية والمناطق الصعبة، وبعد مجهودات جبارة وظفت فيها السلطات العمومية كافة الوسائل الضرورية لتشجيع الفتاة على التمدرس والحد من الانقطاع عن الدراسة قبل استنفاذ السنوات الإجبارية للتمدرس المحددة في 15 سنة، وصلنا حاليا إلى نسب متقاربة بخصوص ولوج الجنسين الى المدرسة مع تراجع ملموس جدا في نسب الهدر المدرسي الخاص بالفتيات.

بالطبع ليس التكافؤ العددي في الولوج للتعليم ولا حتى ارتفاع سنوات احتفاظ المدرسة بالفتيات على مقاعدها كافيين لتبرير تفوق الإناث على الذكور في امتحانات الباكالوريا إذ تشير جل الدراسات أن تفوق الإناث على الذكور دراسيا ظاهرة كونية تبدأ منذ سنوات الحضانة إلى غاية الجامعة. ومن تجربتي الخاصة في التدريس قبل عشرين سنة كنت ألاحظ أن التلميذات أكثر انضباطا بالقسم وأحرص على إنجاز التمارين وأكثر صبرا على إتمام الأعمال الرتيبة والمتكررة وأكثر مثابرة على تحسين مستواهن التعليمي وتحقيق نتائج أفضل لنيل تشجيعات الأساتذة.

للأسف ليست هناك أبحاث كافية تفسر هذا التفوق الأنثوي الذي تعزوه أغلب الدراسات علاوة على الذكاء والاجتهاد إلى عوامل بيولوجية واجتماعية وتربوية واقتصادية ونفسية إضافة إلى عوامل أخرى مركبة. من الناحية البيولوجية معلوم أن الفتيات يبلغن أو بالأحرى ينضجن قبل الذكور بأربع إلى ثمان سنوات، وهذا النضج الجسدي يجعلهن أكثر إحساسا بالمسؤولية وأكثر وعيا بمحيطهن، ويزيد من حدة هذا الإحساس اختلاف نظرة الوالدين الى البنات منها إلى الذكور. ولا يسمح هذا المقال بالتفصيل أكثر في هذا الجانب غير أن العامل الفيسيولوجي على أهميته لا يكشف سر التفوق المدرسي للإناث في سن الطفولة الأولى أي في مرحلة الحضانة. أما من الناحية السوسيولوجية فتميل جل الدراسات إلى اعتبار التنشئة الاجتماعية أحد أهم عوامل التفوق والتميز إذ تحظى الفتاة بتربية يبدأ فيها اختبار قدراتها البدنية والعقلية في سن مبكرة من خلال أشغال البيت المتنوعة، كما أن خضوع الفتيات للرقابة اللصيقة للأسرة يكسبهن رغبة وإرادة أقوى في صقل مهاراتهن وإثبات ذواتهن واكتساب خبرات تؤهلهن لدورهن المستقبلي كزوجات وأمهات، في الوقت الذي يحظى فيه الذكور بتربية أقل رقابة وأكثر تسامحا في إنجاز الواجبات على اختلاف أنواعها. هناك أيضا من يعزو حاجة الإناث للتفوق على الذكور في رغبتهن الدفينة لكسر الصورة النمطية التي يشكلها المجتمع الذكوري عنهن ورفع التمييز الممارس في حقهن على أساس الجنس أو النوع. إنه انبعاث جديد لوعي الأنثى ونوع من الثأر والتمرد على عقود بل وقرون من الاضطهاد وهضم الحقوق. أما تربويا، فيُجمع المدرسون والمدرسات أن علاقتهم بالتلميذات هي أفضل قياسا بعلاقتهم بالذكور لعدة أسباب منها الانضباط والاحترام والعناية بالهندام والاهتمام بالدفاتر المدرسية والعناية بالخط واحترام الوقت والإقبال على الأنشطة التربوية، وهذه العلاقة الجيدة تنعكس إيجابا على مردودية التلميذات ونتائج التقويمات.بطبيعة الحال هذه الفوارق بين الإناث والذكور في الوسط المدرسي ليست مطلقة ولا تنسحب على جميع المتمدرسات لدرجة أن تتحول هذه التمايزات إلى واقع ثابت.

إن معرفة العوامل الكامنة وراء التفوق الدراسي للإناث سيزيد بدون شك من حظوظ الفتيات لتكريس هذا التفوق وتعزيز فرص تغيير الواقع الحالي المتسم بكثير من السلبيات الناتجة عن الإقصاء والإهمال والتمييز. إنها مسؤولية الجميع للبحث في أسرار هذا التفوق من علماء الاجتماع وعلماء نفس وأنثروبولوجييين وعلماء تربيةلأن تفوق الفتيات دراسيا يعني التأسيس لمشروع مجتمعي لا يعيد إنتاج نفس البنيات الثقافية والاجتماعية التقليدية ويؤهل المغرب لدخول الألفية الثالثة متسلحا بقيم الحداثة والديمقراطية والمساواة. إن المكاسب التي يمكن أن نجنيها من تمكين الفتيات من التمدرس والتفوق في الاسلاك الثانوية والجامعية لا تنحصر فقط في ولوجهن لسوق الشغل وتبوئهن لمناصب رفيعة بل تمتد هذه التأثيرات الإيجابية إلى تحسن في معدلات النمو الاقتصادية وارتفاع في مداخيل النساء وتعزيز استقلاليتهن وتراجع لمعدلات زواج القاصرات وتحسن في الصحة الإنجابية، وربما النقطة الأهم هي عدم تكرار الأم المتعلمة لتجربة الانقطاع الدراسي مع بناتها وبنات محيطها الاجتماعي.

هذا من جهة، فماذا عن انعكاسات التفوق الدراسي للإناث على المدى المتوسط والبعيد على المجتمع؟ إن تعقب التحولات في مسار النساء في بعض الدول المعروفة بحضورهن اللافت والكثيف في مؤسسات المجتمع والدولة كالدول الاسكندنافية حيث تتحكم المرأة في الاقتصاد والسياسة والاستراتيجية والتكنولوجيا يجعلنا نؤمن بإمكانية الاقتداء بهذا المسار الناجح في احترام كامل لخصوصيتنا وهويتنا علما أن تاريخ المرأة المغربية كان دائما لامعا تشهد عليه وتؤكده اللائحة الطويلة للنساء المغربيات الرائدات على المستوى الدولي بدءا من فاطمة الفهرية إلى مريم شديد.

عموما يؤشر التفوق الدراسي للإناث على رغبتهن في القيادة والزعامة غير أن هذه الرغبة ليست دائما مصاحبة وليست مدعومة بشكل كاف من طرف المجتمع والمجتمع المدني ومؤسسات الدولة وغالبا ما تصطدم الفتيات والنساء المتفوقات بمقاومة شديدة من المجتمع الذكوري تمنعهن من الوصول إلى مراكز القرار وإلى المناصب الحساسة رغم أن المؤتمرات الدولية حول المرأة (منذ المؤتمر العالمي للمرأة المنعقد بيكين سنة 1995) تحث على إشراك المرأة في عملية صنع القرار وتولي المناصب السياسية. وليس هناك في الواقع أمام النساء طريق أقصر من طريق السياسة لكسب رهان فرض الذات من خلال حيازة التمثيلية في مؤسسة البرلمان والحكومة وتشكيل قوة ضاغطة قادرة على تغيير قواعد اللعبة وإقرار تشريعات عادلة تلغي كل مظاهر الحيف والاقصاء. ولن يتأتى هذا إلا ببلوغ المتفوقات لمراكز القرار السياسي والانخراط في الأحزاب السياسية والنقابات وقيادة الجمعيات ومراكز الأبحاث العلمية. إن نجاح المرأة في سَلك هذا الطريق الشاق كفيل بجعل المرأة مستقبلا في غنى عن التودد في طلب منصب بذريعة المناصفة أو التمييز الإيجابي. هناك حاليا مؤشرات تجعلنا نتفاءل بمستقبل أفضل بوجود ست وزيرات في الحكومة الحالية وربما نشهد في العقدين المقبلين تقلد امرأة لرئاسة الحكومة أو لإحدى غرفتي البرلمان.

باختصار إن تشجيع الفتيات على التفوق الدراسي هو حاجة مجتمعية، كما أن مواكبة أحلام المتفوقات في قيادة المجتمع هو بمثابة تعبيد للطريق لإرساء دعائم مجتمع ديمقراطي متضامن يعمل بكامل طاقاته.

سعيد الحجي : باحث متخصص في القانون العام والعلوم السياسية.

About Post Author