المجتمع المدني والديمقراطية في عصر شبكات التواصل الاجتماعي (1/2)
فاطمة رومات
الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا
تعتبر التكنولوجيات الحديثة بما فيها شبكات التواصل الاجتماعي أداة أساسية للتنمية ولتحقيق أهداف الألفية لأنها تخلق فرصاً جديدة في كل مكان ولها تأثير كبير على حياتنا اليومية.فهي تبقينا على اتصال بكل القضايا ومع كل الفاعلين على الصعيد الوطني والدولي. و لهذا السبب يمكن أن يعزز استخدام هذه الأدوات دور المجتمع المدني في التنمية وفي المسار الديمقراطي. وتؤكد اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي على أن هذه التكنولوجيات الحديثة هي أداة للتنمية وليست في حد ذاتها غاية ،فهي تقوم بخلق نوع جديد من العلاقات بين الفاعلين في المجتمعات في العصر الرقمي، كما أن شبكات التواصل الاجتماعي تخلق شكلا جديدا من التفكير والعيشمع اختلاف الزمان والمكان و تساهم في تعزيز دور المجتمع المدني في البناء الديمقراطي. في الواقع إن هذا الأمر يندرج في إطار إعلان مبادئ مؤتمر القمة العالمي لمجتمع المعلومات، الذي نظم في جنيف سنة 2005 والذي ينص على : “ﻨﺤﻥ ﻤﻤﺜﻠﻲ ﺸﻌﻭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻡ ﻭﻗﺩ ﺍﺠﺘﻤﻌﻨﺎ ﻓﻲ ﺠﻨﻴﻑ ﻤﻥ 10 إلى 12 دجنبر 2003 ﻟﻠﻤﺭﺤﻠﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻤﻥ ﺍﻟﻘﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﻟﻤﺠﺘﻤﻊ ﺍﻟﻤﻌﻠﻭﻤﺎﺕ، ﻨﻌﻠﻥ ﺭﻏﺒﺘﻨﺎ ﺍﻟﻤﺸﺘﺭﻜﺔ ﻭﺍﻟﺘﺯﺍﻤﻨﺎ ﺍﻟﻤﺸﺘﺭﻙ ﻟﺒﻨﺎﺀ ﻤﺠﺘﻤﻊ ﻤﻌﻠﻭﻤﺎﺕ ﺠﺎﻤﻊ ﻫﺩﻓﻪ ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﻭﻴﺘﺠﻪ ﻨﺤﻭ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ، ﻤﺠﺘﻤﻊ ﻴﺴﺘﻁﻴﻊ ﻜﻝ ﻓﺭﺩ ﻓﻴﻪ ﺍﺴﺘﺤﺩﺍﺙ ﺍﻟﻤﻌﻠﻭﻤﺎﺕ ﻭ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﻭﺍﻟﻨﻔﺎﺫ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﺍﺴﺘﺨﺩﺍﻤﻬﺎ ﻭﺘﻘﺎﺴﻤﻬﺎ، ﻭﻴﺘﻤﻜﻥ ﻓﻴﻪ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ ﻭ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻭ ﺍﻟﺸﻌﻭﺏ ﻤﻥ ﺘﺴﺨﻴﺭ ﻜﺎﻤﻝ ﺇﻤﻜﺎﻨﺎﺘﻬﻡ ﻟﻠﻨﻬﻭﺽ ﺒﺘﻨﻤﻴﺘﻬﻡ ﺍﻟﻤﺴﺘﺩﺍﻤﺔ ﻭ ﺍﻟﺘﻤﺴﻙ بميثاق ﺍﻷﻤﻡ ﺍﻟﻤﺘﺤﺩﺓ ﻟﺘﺤﺴﻴﻥ ﻨﻭﻋﻴﺔ ﺤﻴﺎﺘﻬﻡ، ﻭ ﺫﻟﻙ إﻨﻁﻼﻗًﺎ ﻤﻥ ﻤﻘﺎﺼﺩ ﻭ ﻤﺒﺎﺩﺉ الأمم المتحدة، والتمسك بالاحترام الكامل للإعلان العالمي لحقوق الإنسان“.مما يدفعنا لطرح السؤال حول دور المجتمع المدني في البناء الديمقراطي في عصر شبكات التواصل الاجتماعي،و إلى أي حد تساهم هذه التكنولوجيات الجديدة في تعزيز دور المجتمع المدني و مساهمته في المسار الديمقراطي، كما نتساءل أيضا حول مستقبل الديمقراطية في عصر شبكات التواصل.
1-أهمية شبكات التواصل الاجتماعي لتعزيز دور المجتمع المدني في البناء الديمقراطي
نشأ مصطلح المجتمع المدني منذ اليونان القديمة مع الفيلسوف أرسطو الذي استخدمه باعتباره (koinonía politikè) أي مجموعة سياسية تخضع للقوانين.ثم استخدم في وقت لاحق باللاتينية (Societas Civilis)، والذي يعني “شركة المواطن“،أي تجمع دون تسلسل هرمي أو سلطة عليا ويتألف من أشخاص يتقاسمون نفس الهدف. و يتخذ فيما بعد اسم (Polis ) ويعني مدني أو المجتمع السياسي.إن مصطلح المجتمع المدني يتكون من الأفراد المستقلين عن الدولة التي ظهرت خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مع العديد من المفكرين مثل مونتيسكيو (1689-1755) وجون لوك (1805-1859).
وقد استخدم هذا المفهوم بشكل واسع منذ التسعينات مع العولمة التكنولوجية. وبالتالي، فإن مصطلح المجتمع المدني يشمل الجمعيات والمؤسسات ومعاهد البحوث ووسائل الإعلام. والحركة النقابية والفاعلين في مجال الأعمال التجارية والفكر و المجتمعات الدينية والتعاونيات والشبكات ومختلف الحركات الاجتماعية وجميع أنواع المنظمات ذات الأنشطة غير الربحية و الأهداف المشتركة. ويعتمد فرانسيس فوكوياما على تعريفه للمجتمع المدني على خمس نقط أساسية:
–العلاقة الجيدة بين الحكومة والمجتمع المدني والتي تدل عليها مراقبة حقوق الإنسان في البلد،
–المساءلة بين المجتمع المدني والحكومة: والسؤال المطروح هنا كيف يمكن للمجتمع المدني أن ينشئ آلية للمساهمة في التغيير؟
–التمويل المحلي: على الحكومة أن تشجع المجتمع المدني الذي يعمل مع الحكومة على تحقيق التنمية،
–العلاقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، أي العلاقة بين المجتمع المدني والسياسة.
وتكمن القيمة الخاصة للديمقراطية التي يعمل عليها الفاعلين في المجتمع المدني في تأثير هذا الأخير في رسم السياسات العمومية و تنفيذها و تقييمها. المجتمع المدني هو فاعل أساسي في عملية الديمقراطية في القرن 21. وقد أثبت الحركات الاحتجاجية التي عرفها العالم العربي في 2011 أن هذا الفاعل عنصر أساسي و فعال في البناء الديمقراطي كما تؤكد قدرة المجتمع المدني على إحداث التغيير.
والواقع أن ظهور المجتمع المدني هو في نفس الوقت نتيجة للعملية الديمقراطية ومشارك فعال فيها. بعبارة أخرى، هناك علاقة تأثير وتأثر بين الديمقراطية والمجتمع المدني. فالمجتمع المدني يساهم بشكل كبير في العملية الديمقراطية، والديمقراطية شرط أساسي.
لتعزيز دور المجتمع المدني بوصفه فاعلا رئيسيا في التنمية، بما في ذلك تطور مفهوم الديمقراطية. المجتمع المدني حسب فرانسيس فوكوياما هو فضاء للتربية المدنية والتربية على التعبير عن صوت المواطنين وإذا كان مكانا للأصوات الناقدة، فهذا يعني أن هناك احتمال معارضته للدولة ومراقبته للعمل الحكومي.
بالنسبة للبروفيسور “بول بريست” لا بد من التمييز بين المنظمات غير الربحية والمجتمع المدني، فهو يعتبر أن المجتمع المدني يشمل المنظمات غير الربحية والمنظمات الحكومية، ذلك أنهما معا يقدمان خدمات مثل التعليم والرعاية الصحية، إلخ. لهذا يجب التمييز بين المجتمع المدني والمنظمات غير الربحية، فالفرق بين المنظمات غير الربحية والقطاع الخاص يشبه الاختلاف بين المجتمع المدني والقطاع العام.والمجتمع المدني بحسب مؤشر سيفيكوس هو “الساحة أو السيناريو، خارج الأسرة والدولة والسوق، الذي نشأ من خلال الإجراءات الفردية والجماعية ومن جانب المنظمات والمؤسسات لتعزيز المصالح المشتركة” وقد تطور هذا المفهوم بالمساهمات النظرية ونتائج الأبحاث التي أتت من أمريكا اللاتينية.
وقد استخدم المجتمع المدني الإنترنت بشكل واسع منذ عام 2000، وقد بلغ عدد المستخدمين سنة 2017 إلى 7،4 تريليون شخص بمعدل 48 في المئة عالميا حسب الاتحاد الدولي للاتصالات.هذا الرقم يدل على العدد الكبير من أفراد المجتمع المدني الذي يستخدم الانترنت والذي يؤثر ويتأثر بكل ما يحدث على المستوى الوطني والدولي. ذلك أن من ضمن آثار الاستخدام الواسع للإنترنت ارتقاء دور الفاعلين الجدد من بينهم المجتمع المدني في تسيير الشأن المحلي وتنامي دوره في الحكامة الدولية.
ومن المؤكد أن الشبكات الاجتماعية قديمة قدم الوجود البشري. وتكشف دراسة أنجزها ثلاثة خبراء في شبكات التواصل الاجتماعي هم فاولر وداويس وكريستاكيس أن الشبكات الاجتماعية الفردية لها أساس وراثي جزئي، تظهر أنماطا منهجية مماثلة في سياقات بشرية متنوعة.فمع ظهور شبكة الإنترنت 2.0 تطورت شبكات التواصل الاجتماعي بشكل كبير وانعكس هذا الأمر على تحسين وسائل التواصل. ومن المسائل الأساسية لتوطيد الشبكات نجد الثقة المتبادلة بين الأفراد المرتبطة بشكل مباشر بالقدرة على قبول الآخر مهما اختلفت مرجعيته. وبالنسبة للمجتمع المدني، من المهم جدا أن تنشأ مجالات القرب دون قيود من حيث الزمان أو الفضاء مع توفر الحد الأدنى من الثقة. كما أثبتت نفس الدراسة أن الناس لديهم ثقة قوية في شبكات التواصل الاجتماعي مثل: الفيسبوك و تويتر وغيرهما.
توفر شبكات التواصل الاجتماعي إمكانية الوصول إلى المعلومات والتواصل مع مختلف الفاعلين في أي بلد. وقد استخدم المجتمع المدني هذه التكنولوجية لتحسين أنشطته، وتقوية مشاركته في البناء الديمقراطي، وتلبية الاحتياجات الاجتماعية التي تهم المجتمعات. ومن وجهة نظر دافيد فاريسساهمت شبكات التواصل الاجتماعية في التغلب على الرقابة المفروضة على وسائل الإعلام في الأنظمة الديكتاتورية، مما يسمح بتدفق سلس للمعلومات بين أعضاء المجتمع المدني وهو أمر ضروري للعمل الجماعي. نذكر هنا حالة مصر التي استخدمت فيها شبكات التواصل الاجتماعي لحشد الناس في الشوارع وفي ميدان التحرير قبل أن تقطع الحكومة خدمة الإنترنت. وقد ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في تحقيق التغيير في مجموعة من البلدان بعد استخدامها من طرف المجتمع المدني،ويندرج في هذا الإطار نموذج لإحدى المنظمات غير الحكومية التي اعتمدت على هذه التكنولوجيات كأداة ضغط و يتعلق الأمر بأفاز التي طورت شبكة تضم اليوم أكثر من 21مليون عضو في جميع أنحاء العالم. وقد حصلت على نتائج مثيرة جدا للاهتمام حيث أنها وبعد ضغط دولي كبير أثرت هذه المنظمة على قرار الأمم المتحدة بالاعتراف بفلسطين كدولة ملاحظة، واستخدمت نفس الوسائل لجمع الأموال لمساعدة ضحايا الزلزال في هايتي، وتناضل الآن من أجل حقوق المرأة، وتجنب انقراض الفيلة إلى غير ذلك من القضايا التي تثير اهتمام المجتمع المدني ويلتف حولها في إطار علاقات عبر–وطنية تتجاوز الحدود الإقليمية المادية لتجد لها مجالا أوسع في العالم الافتراضي.
إن استخدام المجتمع المدني لوسائل التواصل الاجتماعي يجعلها أكثر قوة كفاعل على الصعيدين الوطني والدولي،بل أكثر قوة من بعض المنظمات الدولية وهذا يعيدنا إلى نظرية العقد الاجتماعي بين الأفراد والحكومة. وقد تحسنت الرقابة الاجتماعية على العمل الحكومي مع أشكال التواصل والتفاعل والعمل الجماعي. فالحكومات تستمد شرعيتها من الأفراد وهؤلاء يمكنهم بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي الضغط على الحكومات لإجراء إصلاحات تلبي احتياجاتهم حيث يمكن استخدام تكنولوجيا الإعلام والاتصال من قبل المواطنين للتأثير في السياسات العمومية.ويبدأ دور المجتمع المدني في عملية الديمقراطية بربط الناس بجميع قضايا الحكم وصنع السياسات. وبهذا المعنى، تشكل شبكات التواصل الاجتماعي عنصراً هاما يضمن إدماج الجميع في عملية الديمقراطية وممارسة جيدة للمقاربة التشاركية.
يمكن للمجتمع المدني من خلال استخدام شبكات التواصل الاجتماعي تعبئة الأفراد والضغط على الحكومات التي تستمد شرعيتها من الأفراد لإحداث التغيير.وهذا ما أكدته الاحتجاجات التي عرفتها بعض البلدان العربية التي عرفت استخداما واسعا لشبكات التواصل الاجتماعي من طرف الأفراد و كيف أن النتيجة كانت تغيير أنظمة حكم كانت قائمة لسنوات كما هو الأمر في مصر وتونس وليبيا.
فعلى مدى سنوات، أنشأ المجتمع المدني وسائل التواصل التقليدية لتلبية احتياجات هو القيام بأنشطته. وبهذا المعنى، نشارك مالينسكي الرأي عندما قال: “العمل الجماعي والمشترك ليس بالأمر الجديد بالنسبة لفاعل تحركه القيم والذي كان تاريخيا يعاني من نقص في الموارد. والجديد هو غلبة أشكال جديدة من التعاون وأدوار التكنولوجيا في تيسير نموها وعملها“. فشبكات التواصل الاجتماعي تسهل التواصل و التفاعل بين الأفراد وتعزز دور المجتمع المدني في البناء الديمقراطي.
الدكتورة فاطمة رومات
أستاذة العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية أكدال– الرباط
رئيسة المعهد الدولي للبحث العلمي بمراكش
عضو مجموعة الخبراء الذين تم تعيينهم من طرف اليونسكو لانجاز التوصية حول أخلافيات الذكاء الاصطناعي