منظور الحركة النسوية للنيولبيرالية
بشرى القاسمي
دعت الحركة النسوية إلى تفعيل المقاربة الجندرية في الحياة بشتى أشكالها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وذلك باعتبارها منطقا أساسيا ومهما لتجاوز اللامساواة القائمة بين الرجال والنساء، ويشكل الجندر مفهوما تنمويا ورؤية عمل وبرنامج في مختلف القطاعات، بحيث ارتبطت المقاربة الجندرية بمفهوم تمكين المرأة من خلال إشراكها في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
تعتبر النيولبيرالية المرجعية النظرية والأصل الاقتصادي للعولمة الراهنة، بحيث تقوم هذه الأخيرة على جعل السوق كيان مهيمن ومؤسس للرؤية الاقتصادية، إضافة إلى تبني سياسات اقتصادية تركز على نظام السوق وبذلك تم إغفال البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وفي مقابل ذلك ركزت الحركة النسوية النيولبيرالية على فكرة تشجيع دخل الأسرة واعتبرت هذه المسألة نقطة محورية في الاقتصاد الرأسمالي الذي تنظمه الدول، بحيث انطلقت في ذلك من نموذج الأسرة التي يكون فيها الرجل معيلا والمرأة ربة منزل باعتباره نموذج مرفوض، ففي ظل تحطم وعود الاشتراكية وما تلاها من حركات تحررية على الساحة الدولية بدأ تيار النسوية الجندرية يزيح عن عاتقه التركيز على الوعود الحقوقية الأساسية للحركة النسوية النيولبيرالية والتي استندت في جوهرها على الحقوق الاقتصادية والسياسية لتتبنى صيغة أكثر انسجاما مع الإيديولوجية النيولبيرالية والتي تؤمن مسبقا بتحكم السوق.
ففي مرحلة النيولبيرالية ناضلت الحركة النسوية لضمان تحقيق النساء كما الرجال منافع الاستقلالية الفردية والخيارات المتعددة وتشجيع المرأة على تحقيق ذاتها بناء على قيم جوهرية مثل الريادة والاعتماد على الذات والحق في العيش بسعادة، وفي هذا السياق تصدر تيار عريض من رواد هذه الحركة دعاوى تحرير المرأة ومنحها حقوقها باعتبار أن الاستقلال المادي هو السبيل الوحيد لتحريرها، بحيث أصبح التوجه النسوي مستندا على منع التدخل في شؤون حياة المرأة، وبناء عليه يمكن إيجاز سياسات النسوية النيولبيرالية في الترويج لعمل المرأة بهدف إخضاعها لقوانين سوق العمل، عن طريق استهداف النساء والفتيات كفئة أولى في مجال التنمية أخدا بعين الاعتبار ما ينبني عليه من تسابق المنظمات والشركات المساهمة في تمويل المشاريع التنموية التي تستهدف المرأة.
لقد تعرضت النيولبيرالية لانتقادات كثيرة من طرف الحركة النسوية في ظل المقاربة الجندرية حيث تصاعدت الإحباطات من البنية الاقتصادية النيولبيرالية بشكل عام في السنوات الأخيرة، وأدت خصخصة الخدمات، وزيادة البطالة، وتقلص القطاع العام، وانخفاض تكاليف العمالة، وتدابير التقشف التي اعتمدتها الدول إلى تفاقم أشكال التفاوت الاقتصادي بشكل غير مسبوق، وكانت النساء والفتيات هن الأكثر تضررا وازدادت أشكال التوظيف غير المستقرة وغير الرسمية في ظل البنية الاقتصادية النيولبيرالية.
كما أدت النيولبيرالية باعتبارها صورة للعولمة الراهنة إلى تفاقم اللامساواة بين الرجال والنساء وشكلت تحديات لخصوصية المرأة وسلامتها وعدالة الجندر في البيئات القمعية وكذلك على سلامة تماسك المجتمع، حيث واجهت النساء تحديات اقتصادية متزايدة وكانت الحركات النسوية في ظل النيولبيرالية تركز على معالجة كل هذه التحديات بشكل منفصل بدلا من انتقاد أسبابها الجذرية، لكن الموجتين الأولى والثانية من الربيع العربي، واللتين انطلقتا بسبب التفاوتات الاقتصادية الصارخة والمتزايدة قلبتا هذه المعادلة فقد نزل الملايين إلي الشارع للمطالبة بإصلاحات اقتصادية من بين أمور أخرى ولعبت النساء أدوارا قيادية بينهم، وبدأ الاتجاه النسوي المناهض للنيولبيرالية بالنضوج وظهرت شعارات مثل “العدالة الاقتصادية قضية نسوية” و” لا نسوية بدون عدالة اقتصادية” على لافتات العديد من الاحتجاجات ولاسيما الثورة اللبنانية عام 2019، تأتي النيولبيرالية لتحقيق حرية أكبر للنساء بإلغاء السلطة الأبوية، وبهذا تلبي وعودها بتحقيق حرية النساء لتتجه نحو نظام أخر يتمثل في سلكه سوق العمل بحيث تجبر مئات الآلاف من نساء اللواتي يعملن في منازل نساء أعلى شأنا في التضحية بدورهن كأمهات بسبب الضغوط المادية.
إن الإنجازات التي حققتها النسوية النيولبيرالية باعتبارها نقطة تسجل لصالح المساواة في النوع الاجتماعي ليست إلا نجاحا منقوصا بحيث يعادي الفكرة الرئيسية المنادية بالمساواة بين الجنسين، فالقوانين الاقتصادية التي تشرع السياسات النيولبيرالية تؤثر على تماسك ونمو النسيج الاجتماعي كما تعطل نضال تيار النسوية في وجه الرأسمالية.
إن سياسات العولمة الراهنة على المستوى العالمي وسياسات الإصلاح الهيكلي على المستوى المحلي كانت لها أثار سلبية على التنمية البشرية وعلى المرأة بالخصوص، فإذا كان التكيف الهيكلي يؤثر على الرجل أساسا كمنتج إلا أنه يؤثر على المرأة بعدة أشكال كأم، أو ربة منزل أو كعاملة في المجتمع ومنتجة للسلع والخدمات مما يعني زيادة العبء الاقتصادي الواقع على المرأة وبالتالي على قدرتها على التكيف الهيكلي.
بشرى القاسمي
باحثة في العلاقات الدولية بالمغرب