عبد الرحمان رشيق : تطور ديناميات و آليات الفعل الاحتجاجي بالمغرب
صدر لِعبد الرحمان رشيق، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع الحضري بالمركز المغربي للعلوم الاجتماعية “CMSS” التابع لجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، كتاب “المجتمع ضد الدولة : الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع بالمغرب“ في نسخته العربية عن الكتاب الذي سبق و صدر باللغة الفرنسية سنة 2016 تحت عنوان “la société contre l Etat mouvements sociaux et stratégie de la Rue au Maroc”.
“مغربيات” تواصلت مع الأستاذ عبد الرحمان رشيق للحديث عن الإصدار الجديد في نسخته العربية، ولتحديد سياق إنتاجه وأبرز الأسئلة التي وجهت الباحث في إعداده، وأهم النتائج والخلاصات التي تمخضت عن الكتاب.
أجرى الحوار : هشام كنيش
مغربيات : ترجم كتاب “la société contre l Etat : mouvements sociaux et stratégie de la Rue au Maroc ” أخيرا إلى العربية، كيف وجدتم هذه الترجمة ؟
أظن أن أهمية النسخة العربية للكتاب تكمن في كونها ستستهدف بالتأكيد جمهورا أوسع. كما أن عزالدين العلام كاتب ومترجم وصديق. لقدترجم العديد من الكتب إلى اللغة العربية. وواكبت ترجمة كتابي من الصفحة الأولى إلى الصفحة الأخيرة، وكان كل ما تًرجم فصل منالكتاب يبعثه الي لقراءته وبعد ذلك مناقشته. كان النقاش يصب غالبا في تحديد بعض المفردات والمصطلحات والمفاهيم. أتذكر مثلامصطلح “émeute” الذي تمت ترجمته في أعمالي السابقة ب” التمرد“، وكان من المفيد ترجمته الى العربية بمصطلح الانتفاضة، كما هوالشأن كذلك حينما ترجمت مفهوم “frustration” ب “الحرمان” في كتاباتي السابقة، فتم الاتفاق بطلب من عز الدين العلام بتبني مفهوم“الإحباط” الذي يوفي بالمعنى الصحيح للمفهوم. على كل حال فهذه الدراسة حددت نظريا كل المفاهيم والمصطلحات المستعملة حتى نتجنبكل التباس.
ما هي أبرز الأسئلة التي يحاول الكتاب الجواب عنها؟
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل تطور مختلف أشكال الحركات الاحتجاجية التي عرفها المغرب المستقل في مجاليه الحضري و القروي. البحث يقارب العلاقة بين الاحتجاج الاجتماعي وطبيعة المنظومة السياسية السلطوية، كما يتابع مسار تطور هذه الحركات الاحتجاجية و انتقالها من “الانتفاضة” العنيفة خلال الثمانينيات، و“الاعتصام” خلال التسعينيات إلى المظاهرة في المجال العام.
كانت حالة الفقر المجتمعي و الإقصاء المجالي تُعاش من قبل السكان باعتبارها أمرا “طبيعيا“. فقد تغيرت هذه التصورات الجماعية بعدانفتاح النظام السياسي على مكونات المجتمع منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد تؤدي السياسات العامة التي تسعى إلى الإدماج الاجتماعيوالمجالي إلى نتائج عكسية، لأنها تغذي الأمل وتزيد من الانتظارات الاجتماعية للسكان التي من شأنها أن تؤدي إلى احتجاجات جماعية.
هل سيسير تحوّل الحياة السياسية في المغرب نحو “تهذيب الأخلاق“، وتراجع الترهيب والعنف البوليسي والفساد و الزبونية، الخ، أو أنّالأمر لا يعدو أن يكون مجرّد “عدوى التوافقات، عدوى القيم الديمقراطية، أي مجرد تأثير فيروسي…”؟ وهل يكون مسار الديمقرطية هذا، واللجوء الكثيف لمختلف دلائل الفعل الجماعي السلمي قادرين على الحدّ من مخاطر تفاقم العنف الحضري، وخاصة في شكل انتفاضاته المميتة ؟ وهل يمكننا الحديث عن انطلاق مسار جديد للتخفيف من العنف المادي والتفنّن المتزايد في آليات الهيمنة في بعدها الرمزي على الخصوص؟ أو يكون علينا بالأحرى أن نتبنى مقاربة “نوربير إلياس” (Norbert Elias) التي تؤكّد على تراجع العنف المدمّر الناتج عن مسار طويل من التهدئة“؟…
ما هي أبرز المخرجات المتمخضة عن الكتاب؟
فمن خلال تتبعنا لصيرورة الانتفاضة في السياق المغربي وفي ظل نظام سياسي متسلط، يعني أنه لا يسمح بتنظيم حركات اجتماعية، فمصطلح الانتفاضة يتشكل معناه وفق المحددات التالية: المحدد الأول يكمن في كون الانتفاضة هو عبارة عن ردود أفعال جماعية عفوية وتلقائية وعابرة، تعبر عن نفسها دون تخطيط مسبق لتحركاتها ودون مطالب أو برامج أو إيديولوجية معينة. المحدد الآخر يتجلى في كثافةاستخدام المنتفضين للعنف غالبا بصفة مجانية يُستهدف فيها النظام الاجتماعي القائم والذي يتسبب في خسائر بشرية ومادية كبيرة. الخصوصيةالأخرى للتمرد في المدن المغربية هو أنه ينتقل بالعدوى، فهو يظهر في حي معين وينتشر بسرعة كبيرة إلى أحياء مجاورة تم إلى مدنأخرى كما هو الحال سنة 1965 و سنة 1981 و 1984 و 1990.
فعكس مصطلح الانتفاضة، تتحدّد الحركة الاجتماعية عموما باعتبارها شكلا من أشكال الفعل الجماعي المتظافر في سبيل قضية ما، فالفكرالماركسي يقتصر على إرجاع النزاعات السياسية إلى صراعات مصالح بين الطبقات الاجتماعية ومكوّنات الطبقات الموجودة… وإبرازكيف أنّ مختلف الأحزاب السياسية هي التعبير السياسي المتناسب، إن قليلا أو كثيرا، لنفس الطبقات ومكوّناتها.
تُعتبر الحركة الاجتماعية سلاح الضعفاء المجبرين على التظاهر والإضراب لغياب طرق مؤسساتية تمكّنهم من إسماع أصواتهم. فالحركةالاجتماعية التي تتمكّن من الاستمرار وتنجح في فرض نفسها، كما هو الحال مع حركة جمعية حاملي الشهادات المعطلين في المغرب، تسيرفي اتجاه تثبيت نفسها كمجموعة ضغط تجاه السلطات السياسية. وفي هذا المعنى بالذات، يلجأ “شارل تيلي” إلى معيار جديد لتعريف الحركةالاجتماعية يتطابق جيدا مع النزاعات الاجتماعية، القديمة والجديدة، الناشئة بالمغرب. بمعنى أنّ الحركات الاجتماعية هي أعمال حبلىبمواجهات مع السلطات السياسية.
لقد أدى إضعاف العمل النقابي، وتشتت وعدم التجانس وتضاعف الصراعات الاجتماعية الحضرية في الغرب في أواخر الستينيات من القرنالماضي إلى نوع من الانزعاج لدى علماء الاجتماع الذين كانوا يتصوّرون أنّ الحركة الاجتماعية الحقيقية الوحيدة هي المرتبطة بالطبقةالعاملة.
وإذا كانت الحركات الاجتماعية الكلاسيكية تسعى إلى الدفاع عن المصالح المادية ( الفئوية) والرمزية، فإن الحركات الاجتماعية الجديدة تنظم نفسها بالأولى حول مجموعة من القيم. فقد أبرزت الحركات الأخيرة أشكالا أخرى للهيمنة الاجتماعية، والجنسية، أو اللغوية. خاصية هذه الحركات الاجتماعية الجديدة هي أنها ليست نتاجا لعلاقات الإنتاج الاقتصادية، وتزحزح، فيما يبدو، الأشكال الكلاسيكية لتدبير النزاع الاجتماعي والتمثيل السياسي.
إن تحليل حركة حاملي الشهادات المعطلين، منذ ظهورها في 1990، يسمح بإبراز هذا التطور الذي عرفته الاحتجاجات الاجتماعية. فهذهالحركة تطوّرت في ظلّ نظام سلطوي، ثمّ في منظومة منفتحة سياسيا، مرورا بتجربة ما سمي بحكومة “التناوب” بدءا من 1998. وفينفس هذا السياق، سوف نقارب الاحتجاجات الاجتماعية في مدن شهدت مخاضا مثل فاس وسيدي إفني وصفرو والعيون.
كان الشباب، حاملو الشهادات المعطّلون، من الأوائل الذين عبّروا بانتظام وبكثافة عن احتجاجاتهم الاجتماعية عبر اعتصامات وإضراباتعن الطعام في الفضاء العام، وذلك أمام مقرات وزارات التربية الوطنية والداخلية والتشغيل، الخ، ومقرات البرلمان والعمالات(المحافظات)، أو بكل بساطة في الشارع العام. ولم يكن احتلال الفضاء العام من طرف المحتجين ليتمّ دون تدخل عنيف من القواتالعمومية.
في ظلّ نظام سياسي سلطوي، جرى الانتقال من الفعل الجماعي لسنوات الثمانينيات الذي اتخذ شكل الانتفاضة إلى الاعتصام السلمي في مقرات النقابات والأحزاب السياسية بدءا من التسعينيات. وإذا كانت الانتفاضة كفعل عنيف عفوي تحتل الشارع، فإنّ الفعل الجماعي المنظم كان يجري داخل الجدران (في مقرات المنظمات السياسية والنقابية). هكذا، كانت الفترة الممتدة من 1990 إلى 1996 المرحلة التمهيدية للفعل التظاهري المتزامن مع مسلسل انفتاح النظام السياسي.
تجلى الفعل الجماعي لمختلف الحركات الاحتجاجية في الفضاء العام (اعتصام، مظاهرة، مسيرة، الخ) في 700 حركة على امتداد سنة2005، أي بمعدّل احتجاجين في اليوم الواحد. وارتفع هذا الرقم تدريجيا، إذ مرّ من 5.000 فعل في 2008 إلى 6.438 في 2009، ليصل إلى 8600 في 2010. وساهم النشاط المستمر لحركة 20 فبراير منذ 2011 في سياق “الربيع العربي” في ارتفاع محسوس لعدد الاحتجاجات. كما استمرّ عدد الاحتجاجات الجماعية في الارتفاع في ظلّ الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وقد وصل هذا العدد إلى حوالي 20.000 احتجاج في 2013، أي بمعدّل 56 احتجاج في اليوم الواحد، ليتضاعف بذلك 28 مرّة مقارنة بسنة 2005،
ما هي أبرز نتائج وخلاصات الكتاب؟
إن الاحتلال السلمي للفضاء العمومي صار بعد مختلف أعمال التمرد العنيفة لثمانينيات القرن الماضي، رهانا سياسيا كبيرا جدا. فقد شهدنا خلال تسعينيات القرن الماضي ” تحويل الإضراب إلى شيء مألوف وعادي“. فلم تعد تخلق الدعوة إلى الإضراب العام أو الوطني (القطاعي)، التي تطلقها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، جوا متوترا في المدينة. لم تعد تلك الدعوة تدرك من قبل المجتمع، ولا من قبل السلطات الرسمية بوصفها تربة مواتية لاندلاع أعمال التمرد القاتلة.
لقد نجح المغرب في غرس عادة الاحتجاج الاجتماعي السلمي في الفضاء العمومي، بداية من النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. لقد حلت الوقفة، والمظاهرة، والمسيرة، محل التمرد. وما جرى في منطقة الحسيمة (2016-2017) لخير دليل على ما أقوله. فعلى الرغم من إننا أمام مظاهرات غير قانونية، فالحراك مستمر لعدة أشهر دون تسجيل أي ضحايا أو تدخل قمعي لهذه المظاهرات التي تقام بدون ترخيص وبدون إشعار لمدة شهور.
لكن مع عودة السياسة السلطوية منذ 2013-2014 التي حاولت الحدّ من الاحتلال السلمي للفضاء العام بدون ترخيص إداري مسبق،وإصدار أحكام قاسية على زعماء الحركات الاجتماعية بدأ الاحتجاج الاجتماعي يتقلص عدديا في الشارع، غير أنّه، وفي نفس الآن، أصبحممتدا زمنيا، وأشدّ كثافة. وكمثال على ذلك، نسوق احتجاجات سكان إيميضر بإقليم تنغير (2011-2019)، والطلبة–الأطباء (2015)،والطلبة–الأساتذة (2015-2018)، وساكنة منطقة الريف (2016-2017)، وساكنة مدينة جرادة (2018) والأساتذة المتعاقدين معالأكاديمية الجهوية لوزارة التعليم (2018-2019)… كما أنّ انخفاض عدد الاحتجاجات في الفضاء العام، يُعوضه اليوم اللجوء إلىمساحات بديلة (حركة les ultras في ملاعب كرة القدم)، والاحتماء وراء الشبكات العنكبوتية (حركة مقاطعة بعض العلامات التجارية سنة2018)…