نورية يامنة العماني.. شاعرة ملهمة تعيش على عتبة الذاكرة

مغربيات : رجاء خيرات 

من رحم ثقافتين مختلفتين (المغربية و الفرنسية) ولدت الشاعرة نورية يامنة العماني. هذه الثقافة المزدوجة التي كان لها الفضل في منحها هذا الثراء الثقافي الذي يظهر جليا في ديوانها الأول على عتبة ذاكرتي “au seuil de ma mémoire” الذي صدر أخيرا عن دار النشر بانتيون الفرنسية “pantheon”، جعلتها كذلك تنفتح على أجناس أدبية أخرى، حيث تستعد لإصدار مجموعتها القصصية الأولى التي اتخذت من المرأة تيمتها الأساسية..

مغربيات تواصلت مع الشاعرة نورية يامنة العماني للحديث عن تجربتها الشعرية و عن علاقتها بالكتابة و رحلتها المثيرة في التدريس الذي قضت به أزيد من ثلاثة عقود..

في الحياة الخاصة كما في كتابة الشعر تكتب نورية العماني من محبرة الصدق و الوفاء و العناية بالآخرين الذين تكتب معهم و لهم كل يوم، كلما صادفتهم داخل المصعد، أو على قارعة الطريق، أو عند البقال و في كل مكان ترتاده نورية إلا وتنخرط بشكل لافت في نقاش مستفيض تقوده رغبة جامحة في الانفتاح على الآخرين، لتخرج بنصوص رائعة تسردها وهي تحكي بطريقة شعرية لا تجد لها مكانا إلا في ذاكرة من يستحضرها ممن سمعها دون أن تدونها نورية. 

هناك الكثير من القصص و الأحداث التي شكلت محطات بارزة في حياة نورية. صحيح لم يكتب لها أن تُدون كلها، لكن هذه الشاعرة لم تكن تترك تفصيلا إلا و أضفت عليه روحا إبداعية و لمسة ساخرة، جعلت الكثير من أصدقائها يحفظون هذه النوتات التي تنتمي لكل الأجناس الأدبية و الفنية و الإنسانية، و المبصومة بخفة الدم و روح النكتة.

شغف مبكر بالكتب

الذاكرة بالنسبة لهذه الشاعرة عنيدة و صلدة تأبى إلا أن تمدها بتفاصيل طفولة عاشتها بشغب و انطلاق، لكن مكابح نضج مبكر حولت هذا الشغب إلا ما يشبه الإقبال المحموم على مكتبات الرباط التي كانت تزورها نورية وهي بعد تلميذة بالقسم الداخلي بثانوية للا نزهة، حيث كانت تتابع دراستها.

في المكتبة التي كانت ترتادها بشكل دائم، سوف تلفت انتباه أحد العاملين هناك، الذي سيلاحظ شغفها المبكر بالكتاب، و تنشأ صداقة قوية بينها و بين هذا العامل الذي لن يتردد في مدها كل يوم بنفس الكتاب الذي استرعى انتباهها و الذي تقرأ منه بضع صفحات، لتعود في اليوم الموالي لإكمال ما تبقى، وهكذا كل يوم إلى أن تنتهي من الكتاب وتعيده إلى مكانه بين الكتب، لتنقض على كتاب آخر، في رحلة جديدة من صداقة عابرة مع كتاب جديد، لكنها رحلة تستمر بأثر لا ينمحي من حياة غنية بالقراءات المتعددة و المختلفة. علاقة نورية باسماعيل سوف تمتد لأزيد من ثلاثين سنة، بعد أن أضحت أحد الوجوه المعروفة بواحدة من أكبر المكتبات بالرباط، التي كانت تتزود منها بالكتاب الذي سيلازمها طيلة حياتها. تقول نورية ل”مغربيات”: اسماعيل لم يعد بالنسبة لي عاملا بالمكتبة التي ارتبطت بها، بل إن علاقتي به تمتد لأزيد من ثلاثين سنة، منذ كنت تلميذة و كان يمدني بالكتاب الذي كنت أقرأ بعض صفحاته، لأعود في اليوم الموالي و أكمل ما تبقى، وهكذا دواليك إلا أن أنتهي منه. إنه يعرفني جيدا و يعرف هذا المرض الذي انتابني منذ الصبا، و لا شفاء منه.. حب الكتاب.

في مرحلة مبكرة سوف تصل نورية إلى خلاصات، لن تعثر عليها إلا بين صفحات خطها الكبار، أو في حديث حكماء أقرباء أثناء عودتها إلى البيت بعد انتهاء فصول موسم دراسي. في كلاسيكيات الأدب الفرنسي كانت بداية الاهتمام بالكتب التي تحولت فيما بعد لفردوس يقوم على ثقافتين مختلفتين تحتمي في حضنه، كلما ضاقت من حولها سبل الحياة و انقطع حبل الوصال مع المحيط.

تقول نورية لمغربيات” : القراءة منحتني ذلك الملاذ، فكلما شعرت بالاغتراب ارتميت في حضن الصفحات التي كانت ، تشعرني بالألفة مع نفسي و مع العالم. إحساس غامر بالسعادة و الانتشاء كنت أستشعره كلما أمسكت بتلابيب كتاب جديد، لتتحول بعد ذلك علاقتي به إلى ما يشبه الصداقة المتينة التي ظلت قائمة ومنحتني القوة لمواجهة الكثير من الانكسارات.

نورية برفقة اسماعيل

من الرياضيات إلى الأدب

منذ البداية كان الاهتمام بالأدب الفرنسي واضحا، سواء من خلال العشق اللامتناهي للكلاسيكيات الأدبية التي طبعت أولى الصور الذهنية عن تشكل العالم و الوجود، أو عبر الدراسة الأكاديمية فيما بعد، رغم  أنه فرض عليها، مرحليا، أن تتلقى تكوينا في مركز التكوين الجهوي بالرباط في مادة الرياضيات، لتصبح بذلك أستاذة لهذه المادة و هي المهنة التي ستزاولها لمدة 19 سنة بإحدى المؤسسات التعليمية بالرباط. تدريس الرياضيات لم يمنعها من متابعة دراستها بإحدى الجامعات الفرنسية، لتنال بذلك شهادة  الإجازة من جامعة “بوردو3” والماستر1 من غرونوبل 3 و “الماستر2” من جامعة “اراش” في الأدب الفرنسي ، وهو ما مكنها من تدريس الأدب الفرنسي بدل الرياضيات، فيما بعد.

ليس غريبا على نورية التي أغنت ثقافتها من خلال الاطلاع و القراءة المكثفة و المتنوعة أن يكون لها مشوار حافل بالعطاء في العديد من المجالات، بدءا بالتدريس في القسم لمادتين (الرياضيات و اللغة الفرنسية)، ثم كمؤطرة مشرفة على دورات تكوينية لفائدة أطر التدريس في مادة اللغة الفرنسية، وهي المهمة التي لازالت تزاولها إلى غاية اليوم لفائدة مؤسسات تعلمية، بعد أن غادرت القسم، و قررت اقتسام خبرتها وتجربتها التي اكتسبتها لما يزيد عن ثلاثة عقود من العمل وكذا إلمامها و اطلاعها لتجارب رائدة في مجال التعليم، الذي لا تكف نورية عن النهل منه من خلال كل ما يسقط بين يديها من أبحاث و كتب في مجال البيداغوجيا و الديداكتيك.

بالإضافة للأدب تعد نورية قارئة نهمة للفلسفة و الفكر و عاشقة للسينما و الموسيقى، كما أنها تمتلك حسا فكاهيا ملفتا. تعرف جيدا كيف تحول الظواهر الاجتماعية المثيرة لمواضيع ساخرة. و الحقيقة أن حياة نورية نفسها تشكل مادة غنية للكتابة، فالمرأة لا تكاد تنتهي من مشروع إلا و تدخل في آخر، دون انتظارات. هي هكذا تستمتع بتسلق الجبال دون انتظار الوصول إلى القمم.

امرأة متعددة

من الصعب حصر نورية العماني في التجربة الشعرية أو السردية، فهي امرأة متعددة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. في جعبتها الكثير لتمنحه و لتقوله، و الجالس أمامها لا يشعر إلا بضيق معارفه و اطلاعه كلما فتح نقاشا في أي مجال من مجالات الحياة و الفكر. فللمرأة ثقافة شاملة في كل الأجناس أغنتها بسنوات من القراءة و الانكباب على الكتب والخبرات التي اكتسبتها من الانغماس في دروب الحياة بجرأة وشجاعة، وتجربتها لا يمكن إلا أن تكون ملهمة للكثيرين. امرأة منكرة لذاتها. لا تستريح إلا في حضرة البسطاء الذين تخاطبهم كما لو كانت واحدة منهم. تكره المتنطعين و المغرورين الذين ينظرون من البروج العالية، وتؤمن حد النخاع أن المعرفة و الحكمة هي عصارة تجارب إنسانية للبسطاء فيها النصيب الأوفر، و لا تتردد في القول بجرأة لمن لا يتردد  في التودد للمغرورين لا أهتم لأمركم.

لا تتحدث إلا وهي تستحضر ما قاله عشرات الكتاب. في كل موقف صادفته، إلا و تطفو عبارة كاتب أو حكمة فيلسوف كان لنورية موعد معه في كتاب أو في رحلة من رحلات حياتها الغنية و المثيرة.

أبرز الكتاب الذين استرعوا اهتمامها الكاتب الأمريكي هنري ميلر و الفيلسوف الألماني نيتشه، لكن مع ذلك يظل عالم الفيزياء إنشتاين أكبر الملهمين لنورية، حيث اكتشفت نظريته النسبية في وقت مبكر من حياتها، والتي جعلت منها طوق نجاة من جحيم المطلق و سلاحا ضد الذين يحاولون أن يحجبوا العقل و يجعلوا من الفرضيات مسلمات و  قيدا لا تلبث نورية أن تكسره وتتبنى نظرية النسبية في كل شيء، كيفما كان مصدره. هي ابنة الإنسانية الشاسعة منذ قررت عدم الانتماء إلا لعقيدة الحرية.

About Post Author