نساء نذرن حياتهن لأبناء أو أشقاء سجناء..

مغربيات

من أمام المحاكم و السجون و عند مداخل المستشفيات و المدارس، هن رابضات لا يبرحن أماكنهن، في الصيف كما في الشتاء تجد الأم أو الأخت أو الابنة، في انتظار سجين أو مريض، قد يكون ابنا أو زوجا أو أخا غائبا تنتظر عودته. النساء هن الفئة الأكثر حضورا خلف من غررت بهم الحياة أو خذلتهم الصحة أو زجت بهم الظروف خلف القضبان.

في ‪ظ‬ل الظروف الصعبة لا يجد الشخص إلا أمه أو زوجته أو أخته، تمنحه الحضن و الدعم و المواكبة، تاركة خلف ظهرها حياة كانت هنيئة لتقتفي أثره بكل التضحيات الممكنة. الحياة لدى هؤلاء النساء تتوقف إلى أن يعود الغائب من سفره الاضطراري. هن كثلة من المشاعر و قدرة على العطاء و التضحية لا تجد لها تفسيرا إلا في سلوك ينم عن نكران للذات و رغبة مبهمة في الانخراط في احتضان الآخرين أقرباء كانوا أو أصدقاءا.

“‬مغربياتاستقت شهادات لنساء نذرن حياتهن لأبناء و أشقاء سجناء أو مصابين بإعاقات جسدية حالت دون اندماجهم في المجتمع، فيما حُرِمن  من أن يحين حياة طبيعية، كما لو أنهن في قاعة انتظار أبدية.. 

نذرت حياتها لشقيق خلف القضبان

كل من عرفها إلا ولمس حبا جارفا لأخ حكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة. امرأة لم تتردد يوما في أن تشهر سلاح حبها لأخيها في وجه زوجها الذي ضاق ذرعا من زياراتها المترددة للسجن كل أسبوع، حين وضعها أمام خيارين لا ثالث لهما، إما حياتها الزوجية و إما شقيقها السجين. لم تتردد في الجواب الذي جاء سريعا : طبعا أخي. في قرارة نفسها لم تكن في حاجة لأن تخبر زوجها بأنها تحمل مشاعر الأمومة لشقيقها الأصغر منها سنا، منذ رحلت أمهما و أوصتها به خيرا، نذرت حياتها كلها لأخيها، وعاهدت نفسها ألا تتخلى عنه إلا وهي تراه خارج أسوار السجن.

لم يعد أحد من الأقارب أو الجيران و الأصدقاء إلا وعرف بحكاية “نزهة” التي عاشت سنوات وهي تنتظر رؤية أخيها خارج السجن، ولما خرج بعفو قبل انقضاء المدة بخمس سنوات، ألحت عليه في الزواج كأنما تريده أن يتدارك ما فاته في السجن، وكانت تردد دائما إنما هي تحيا فقط لترى أبناءه، وفي زحمة الانتظار و الانشغال بالزيارات للسجن نسيت تماما أن تعيش.

أفنت زهرة شبابها في انتظار ابنيها

أفنت (مليكة 68 سنة) زهرة عمرها في انتظار ابنيها. ما يكاد يغادر أحدهما السجن حتى يتم القبض على شقيقه. هكذا أمضى الاثنان حياتهما متنقلين بين الزنازن، مخلفين أما مكلومة لم تعرف طعم الراحة منذ بلغ الاثنان سن الرشد. قضت سنوات عمرها في زيارات متتالية لهما، حتى اعتزلت الحياة الاجتماعية كليا، ولم تعد تلتقي بأحد من أقاربها أو أقارب زوجها الذي لم يكن يكف عن لومها وتحميلها المسؤولية، خاصة و أنها كانت الزوجة الثانية، يقارن بين أبنيها و أبنائه من زوجته الأولى. حتى المآتم لم تكن تستطيع أن تذهب لها، وتكتفي بتقديم التعازي عبر الهاتف خوفا من نظرات الآخرين و أسئلتهم المحرجة و الجارحة أحيانا عن مصير ابنيها. بينما كان الأب يكتفي بجواب واحد كلما سأله أحدهم عنهما قائلا أمهما أفسدتهما من كثرة الدلال“. 

حياتي توقفت منذ أنجبت طفلتي..

“‬في الشهور الأولى التي تلت ولادة طفلتي لم يكن يظهر عليها أي شيء. كانت طفلة عادية تنمو بشكل طبيعي، لكن ما إن أكملت سنة ونصف حتى لاحظنا أن نظراتها أصبحت زائغة و حين تنظر إليك لا تنظر مباشرة في عينيك. توجهنا صوب طبيب أطفال و طلب منا إجراء بعض الفحوصات الضرورية، ثم أخبرنا أن الطفلة تعاني من تأخر نفسي حركي، ومنذ ذلك الوقت انقلبت حياتنا..”. بهذه الشهادة لخصت سمية 55 سنةبداية محنتها مع طفلتها التي عاشت 20 سنة بإعاقة ذهنية، قبل أن تغادر الحياة بعد أن أصيبت بفشل كلوي في السنوات الأخيرة من حياتها. لم تتوقف سمية يوما عن التنقل بابنتها الصغرى لدى الأطباء و الجمعيات التي تهتم بذوي الإعاقات، لعلها تجد مخرجا لقدر قلب حياتها و جعلها تهمل باقي أبنائها كأنما خلقت لتكون أما فقط لتلك الطفلة التي رحلت و حملت معها جرحا كبيرا و إحساسا بالذنب ظل يلازم أمها، رغم كونها لم تقصر يوما في منحها الرعاية و الاهتمام اللازمين، كأنما أرادت أن تعاقب نفسها وتحملها المسؤولية عن هذه الإعاقة التي لم يكن لها يد فيها.

حافز للنجاح..

إذا كانت بعض النساء أغفلن أن يعشن لأنفسهن في غمرة الانغماس في شؤون الآخرين و في مشاكل الأبناء أو الأشقاء. فإن بعضهن أستطعن أن يحولن محنتهن إلى نجاح كبير سواء بالنسبة لهن أو لغيرهن، وهو ما وقع مع لطيفة (46 سنة) التي استطاعت أن تجعل من رحلتها مع طفلها رحلة كفاح ونجاح.

لم تتوقع لطيفة أن تكون ولادة طفلها الثاني المصاب بثلاثي الصبغي سببا في طلاقها من زوجها الذي اعتبر أنها هي المسؤولة عن ولادة هذا الطفل. كانت السنتان الأوليان بعد طلاقها قاسيتين جدا، لكنها لم تستسلم و راحت تستشير بزي الاختصاص و كانت دائمة الاطلاع على كل ما يتعلق بهذه الإعاقة التي جعلت منها حافزا حقيقيا للنجاح. استطاعت بفضل مجهوداتها أن تخلق إطارا جمعت فيه كل الأمهات اللواتي يتقاسمن معها نفس المحنة، ثم أسسن جمعية تعنى بهؤلاء الأطفال، فيما جعلت من الكفل الذي كان سببا في طلاقها بطلا في رياضة فنون القتال.

رأي المختص : نساء كثيرات تعرضن للتعنيف أو الهجران أو الطلاق بسبب رعايتهن لأحد أفراد عائلاتهن

محمد الراشيدي باحث في علم الاجتماع

عن مدى حضور هذه الظاهرة يرى الأستاذ محمد الراشيدي الباحث في علم الاجتماع أن كثيرين هم أولئك الذين رافقتهم أمهاتهم في سنوات التمدرس الأولى، وقد تتجاوز هذه الرفقة مستوى الباكالوريا، حيث يلاحظ المرء تواجد طوابير من النسوة أمام باب مراكز الامتحانات الإشهادية على اختلاف مستوياتها. غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالمرأة الأخت، أو الأم أو الزوجة تظل حاضرة دوما في حياة كل واحد منا، ويتجلى هذا في مناحي عدة من الحياة؛ فبالإضافة إلى المهام الاعتيادية التي تحملها المرأة على عاتقها في المجتمعات العربية عموما وفي المجتمع المغربي على وجه الخصوص، تنضاف أعباء أخرى إلى كاهلها، تظهر في فترات الأزمات التي قد تمر منها الأسرة أو بعض أفرادها، فنفس الطوابير التي تحدثنا عنها سالفا تعاود الظهور في أشكال أخرى أمام أبواب المستشفيات والمصحات بل وحتى المؤسسات السجنية والاصلاحية. فالشهادات والتجارب المستقاة من واقع الناس كثيرة ومختلفة وتصب جميعها في سياق اعتبار المرأة البطلة الأولى في الأسرة المغربية والضحية في الوقت نفسه. فلماذا المرأة بالضبط؟ وكيف يمكن تفسير هذه التضحيات؟

أما عن التفسير النظري للظاهرة فيعتبر الباحث أنه من الصعب تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية بناء على عوامل محددة، لأن أي ظاهرة إنسانية، جديرة بهذه الكلمة، لابد أن تكون مركبة وتنطوي على التعقيد، ولكن نستطيع بناء على ملاحظات معينة، ودون أن نرقى إلى مستوى البحث المنهجي المضبوط المعالم، أن نقول أن التغيرات التي شهدها المجتمع المغربي في القرن الحالي كانت وراء هذه التغيرات، فالاستعمار غير كثيرا من بنية المجتمع المغربي، وبالتالي فقد تغيرت كذلك بنية الأسرة، هذه التي شهدت تحولا في السنوات الستين الأخيرة من الاسرة الممتدة إلى الاسرة النووية، فإذا كان الذكر في الأولى، سواء كان جدا أو أبا، أو عما أو خالا أو اخا أكبر، يتحمل كل الأعباء خارج البيت، في حين تتحمل المرأة المهام المنزلية، في اطار ثنائية الخارج والداخل التي تحكمت في تركيبة العقلية للمجتمع الإسلامي برمته، وتجلت في نوعية وشكل هندسة البيوت والمساكن، هذه التي قسم بدورها إلى فضاءات خاصة بالزوار والغرباء وفضاءات حكر على النسوة وأهل البيت. فالثانية أصبحت تحتل فيها المرأة أدوارا أكثر أهمية، وذلك أولا لغياب الوصاية الذكورية التي كانت تظهر في الأسرة الممتدة نتيجة غياب الزوج أو وفاته، فالاسرة النووية تتقاسم فيها المرأة الأعباء مع الرجل، وقد تؤدي نفس أدواره في حالة غيابه لسبب من الأسباب، وقد أسهم تمدرسها وخروجها للعمل في تسريع وثيرة هذا التحول. فلماذا تضطلع المرأة بالضبط بهذه المهام التضامنية دونا عن الرجل؟

ويوضح أنه يمكن تفسيرها بشكل عام بالمؤثرات الثقافية، حيث يعمل المجتمع منذ الطفولة المبكرة على تنشئة الأنثى باعتبارها في خدمة اخوانها الذكور، ومجال اشتغالها الأساسي هو المطبخ والبيت عموما، ولعل هذا ما اومأت إليه المفكرة سيمون دو بوفوارSimone de Beauvoir لما قالت أننا لا نولد نساء، ولكن نصير كذلك“On ne naît pas femme, on» le devient «غير أن هذه الثقافة التي تمتح من القيم التقليدية للمجتمع المغربي، بدأت تتقلص نسبيا داخل الأسر نظرا لانفتاح أفرادها على مؤثرات ثقافية جديدة خصوصا الغربية منها. وفي ظل هذه الازدواجية القيمية تحيا المرأة المغربية وتلعب أدوارا متنوعة على رأسها الاهتمام بمن حولها من الأقارب. لكن اليس لهذه المهام والاعباء الكثيرة تأثير على حياة المرأة الاجتماعية وتوازنها النفسي؟

أما عن الآثار النفسية و الاجتماعية على حياة هؤلاء النساء فيرى الباحث أن الازدواجية القيمية التي تحدث عنها سلفا، سيكون لها حتما تأثير على مكانة المرأة وعلاقاتها داخل الاسرة المغربية، فكثيرات النسوة اللواتي سمعنا منهن أنهن تعرضن للتعنيف أو الهجران أو الطلاق من طرف ازواجهن مثلا بسبب اهتمامهن أو رعايتهن لأحد أفراد عائلاتهن، خصوصا إن كان هذا الفرد نزيلا في مؤسسة سجنية أو مصحة علاجية. وقد تتخذ الأم قرارا قاسيا بأن تُقبل على رعاية أحد أطفالها، خصوصا إن كان مصابا بمرض عضال يسلبها كل وقتها، فيتعرض بذلك باقي أبنائها للإهمالعلى العموم هي بعض الصور التي تصير فيها المرأة كما أسلفنا بطلة وضحية في الوقت نفسه، فهي تضحي بكل ما أتيت من وقت وجهد من أجل راحة عائلتها وأفراد أسرتها، دون أن تهتم بالضرورة بما يمكن أن يكون لهذا الأمر من انعكاس سلبي على حياتها الشخصية وعلاقاتها الاجتماعية. إن هذه التضحيات الجسام والأدوار المهمة التي تضطلع بها المرأة اليوم في حياة كل منا تجعلها تحتل مكانة مركزية في النسيج الإجتماعي، ويجب أن تسترعي انتباه العديد من المفكرين في مجالات شتى على رأسها السوسيولوجيا والسيكولوجيا.

About Post Author