ندوة تسلط الضوء على التجربة الإبداعية للكاتب و الإعلامي ياسين عدنان

مغربيات

نظمت كلية اللغة العربية بمراكش، أول  أمس الخميس 12 دجنبر، ندوة علمية في موضوع ” التداخل الأجناسي في التجربة الإبداعية لياسين عدنان”، تخللتها مداخلات لأساتدة باحثين و نقاد تناولوا التجربة الإبداعية للكاتب و الإعلامي ياسين عدنان سواء الشعرية منها أو السردية أو الإعلامية.

الكتابة نافذة مفتوحة على العالم

و قال ياسين عدنان، بالمناسبة “إن العالم يبدأ من بيتك لكنه لا ينتهي داخله، لذلك نحن في حاجة للنوافذ و الشرفات في كل بيت لتأمين التماس الدائم مع العالم الرحب… حيث أنه في ذهابنا الحر إلى العالم تصير الحاجة ماسة للكتابة، و عبرها نصافح العالم و نعانقه، و من خلالها نحاوره، ننصت إليه، نسمعه صوتنا و اختلاجاتنا، ثم إن العالم ليس وحدة منسجمة و إنما هو مُجَمع أعراق و ملل، أفكار و إيديولوجيات، أمصار و جغرافيات، أمزجة و حساسيات”.

و أضاف أنه لكي يكون الذهاب إلى العالم حرا بالضرورة و بلا خلفيات، يتحقق الحوار، حوار ينطلق من الاختلاف و يؤمن به، ثم تأتي الكتابة لتفتح الآفاق مرة أخرى، لا لكي يتبدد الاختلاف و يتم الالتفاف عليه، بل من أجل التصالح معه لأنه من صميم طبيعة البشر. 

و أشار إلى أنه أدرك أن السفر قدره و العبور هويته، منذ نافح عن المبدئي ضد من تلقوا سفره للمشاركة في لقاء أدبي بكردستان العراق، للمشاركة في احتفالية كبيرة بمناسبة مئوية الجواهري، أيام نظام صدام حسين، بغير الرضى بسبب مواقف إيديولوجية ظل يرفضها، و يرفض كل قيود من شأنها أن ترسم حدودا لحركة الجسد الحرة في الجغرافيا. 

و لفت إلى أنه مثلما تُحرر روح الكائن جسده من سجن المكان و البيت و البلد، فهي تحرر روحه كذلك من ربقة الجنس الأدبي، وهو ما جعله قلقا على الدوام كأن الريح تحته بعبارة الشاعر أبي الطيب المتنبي. 

و أوضح أنه لم يكن يسكن إلى غرض شعري و لا يستقر في جنس أدبي، حيث أنه كتب  في الشعر  التفعيلة و القصيدة النثرية و القصة و الرواية، و الرحلة و التدوينة و المقالة، مبرزا أن الكتابة تجريب متواصل مستمر، معربا عن سعادته بهذا اللقاء الذي سيتيح له الاستفادة من مداخلات المشاركين و المشاركات لكي يختبر خياراته الأدبية والفنية، ويراجعها إذا اقتضى الحال.

هوت ماروك رواية تحكي عصرها

بدورها تناولت الأستاذة بكلية اللغة بمراكش حسبية الدار في مداخلة قدمتها بدل الأستاذة الراحلة عتيقة السعدي التي وافتها المنية قبل انعقاد اللقاء، بعنوان “الأجناس المتخيلة في رواية هوت ماروك”، مبرزة أن الرواية تشكيل أدبي هجين و نسق منظم من اللغات يتجاوز الحدود الفاصلة بين المعارف و الفنون، تتخطى باستمرار قوانينها لتستعيد من الأجناس الأخرى أدواتها، سواء كانت هذه الأجناس أدبية أم لا.

و أشارت إلى أنه في هذا السياق تندرج رواية “هوت ماروك” للصحافي و الكاتب المغربي ياسين عدنان، حيث تتداخل الأجناس لتشكل بناء الرواية العام، بالرجوع إلى نظرية الناقد الروسي ميخائيل باختين الذي اعتبر أن الرواية جنسا تعبيريا غير منته في تكونه مفتوحا على بقية الأجناس الأدبية الأخرى، ومستمدا منها بعض عناصرها.

و أوضحت أنه من هذا المدخل يمكن الولوج إلى رواية “هوت ماروك” لياسين عدنان الذي يحاول أن ينقل القارئ من خلال زمنين إلى أجواء مغرب عاش منعطفات سوف تأثر في مساره إلى اليوم، و بالتالي فالرواية تحكي عصرها بامتياز لأن الكاتب وضعها في شرطها الثقافي و الاجتماعي و السياسي، كما أن أسلوبها معجون بكثير من معجم الواقع.

و لفتت إلى أن الرواية تشكل فضاءا لاشتغال العديد من الأجناس و الخطابات و اللغات و النصوص التي يعمل الكاتب على بناء نصه الروائي على أساسها، مما يجعل من هذه الرواية الواحد المتعدد، كما أنها تتضمن أجناسا غير أدبية، حيث تم توظيف التاريخ فيها بشكل حيوي من خلال إعادة صياغة الأحداث التاريخية، كالإحالة المرجعية على محنة الأندلس و نهايتها الأليمة ( ليلة سقوط غرناظة )، فضلا عن توظيف الأغاني الشعبية كأداة للتعبير عن الصراعات الاجتماعية و السياسية ( أغنية خربوشة التي تجسد المرأة القوية التي وقفت في وجه الاستبداد و الظلم)، و من هنا تصبح الأغنية الشعبية وثيقة تاريخية و شهادة حية على حقبة معينة من تاريخ المغرب، كمان توظيف الأغنية الشعبية يظهر كيف يمكن للفن أن يكون أداة للمقاومة التي جعل منها الكاتب جسرا يربط الماضي بالحاضر، مؤدية دورا محوريا في تشكل السرد و تعميق أبعاده. 

تداخل الشعر و السرد في دفتر العابر 

 من جهته أشار الناقد حسن المودن في مداخلته المعنونة ” هل للشعر سرديته الخاصة؟”  إلى أن هذا السؤال عام و يمكن طرحه على الشعر العربي قديما وحديثا، خاصة عند التركيز على جنسين سرديين، جنس السيرة الذاتية “الأوتوبيوغرافيا” و جنس الرحلة، حيث أنه منذ القدم و الشعر العربي يستثمر هذين المكونين من امرئ القيس إلى المتنبي و البارودي و وصولا إلى السياب. 

و أوضح انه حين يتعلق الأمر بالتجربة الشعرية لياسين عدنان، فإن تداخل جنس الشعر و جنس السرد في هذه التجربة ما يميزها، مفترضا أن العمل الشعري الذي أصدره الشاعر عدنان سنة 2012 بعنوان “دفتر العابر” واحد من هذه الأعمال الشعرية المعاصرة التي تركب التجريب و تتحرر من مسلمات تختلق التعارض بين الشعر و السرد. 

ولفت إلى أنه بالنسبة إلى مالارميه و فاليري فالشعر الحداثي يقوم على أساس القطيعة بين الشعر و السرد، بينما تجربة ياسين عدنان الشعرية تبحث في هذا الديوان الافتراضي عن صيغة تعيد إدماج السرد داخل  الشعر، و بالتالي يمكن تسميتها بقصيدة السرد، وهنا الأمر يتعلق أساسا بشاعر يكتب الرواية و القصة القصيرة و يتقن العبور من جنس أدبي إلى آخر، لكن الجميل هنا أنه يتقن العبور بين الأجناس داخل العمل الأدبي الواحد و الشعري بالأخص، و قد سبقه إلى ذلك شعراء و منهم من أتى بعده  لكن لتجربة ياسين عدنان ما يميزها. 

و أشار إلى أن “دفتر العابر” عمل إبداعي يرمي إلى أن ينتسب إلى جنس حدي يقع على الحدود بين جنسين كبيرين هما الشعر و السرد و يختار أن يكون وجوده وجودا إشكاليا رغم ما يتعلق باستثمار عشوائي أو مجاني لعناصر السرد، بل يحرص على أن يكون التداخل بين الجنسين ذا طابع إشكالي، متسائلا عن ما الذي يجعل نصا قابلا لأن يقرأ بوصفه قصيدة مع أنه نص يدرج خاصيات السرد و سماته؟ ثم هل للقصيدة طريقة خاصة في سرد الإنساني غير تلك الموجودة في القصة و الرواية معا؟ 

و أشار إلى أن ياسين عدنان له القدرة في أن يقول الإنسان داخل القصة و الرواية، و بالتالي لماذا يلجأ إلى سرد الإنسان مرة أخرى داخل الشعر، و هل يكون التفكير في هذه السردية الخاصة بالشعر بعبارة السردية الخاصة بالنثر و اصطلاحاته؟ مبرزا أن الكثير من الدراسات النقدية العربية تسقط مفاهيم مستخلصة من السرديات الخاصة بالنثر على السردية الخاصة بالشعر. 

و خلص إلى أن ياسين عدنان، موزعا بين الشعري و السردي، يبحث عن هوية إبداعية تجمع بين الإثنين وهي بالضبط هوية العابر الذي لا يريد أن يستقر داخل هوية جنسية مغلقة، بقدر ما يرغب في أن يمارس العبور، ليس عبر البلدان و الحدود فحسب، بل بالأساس من خلال عبور الأجناس الأدبية و حدودها.

 و قال “في كتاب من 203 صفحات يمتد نص شعري طويل وهو عبارة عن محكي رحلي أوتوبيوغرافي له بداية و هي بداية الرحلة و نهاية هي العودة إلى مراكش، وبالتي فنحن أمام قصيدة طويلة تشكل كلا مغلقا، وهو عمل تجريبي يؤسس نوعا من النص الشعري الذي يتفرد أكثر فأكثر، كأنه يقدم خدمة لصالح النثر في زمن يقال إنه زمن السرد و الرواية لا زمن الشعر”.  

لغة شعرية حديدة تنشد الحرية و الإنسانية

حول “شعرية العبور و خرق الحدود الأجناسية : نماذج نصية من شعر ياسين عدنان” ذكرت الناقدة حورية الخمليشي أن العلاقة بين الشاعر و القارئ متغيرة و متجددة على الدوام، فكل قراءة تخلق ولادة جديدة للنص لأنها تفتح أفقا جديدا للتأويل، لكن يبقى السؤال كيف نقرأ النص الشعري المعاصر معرفيا في زمننا.

و أضافت أن هذا السؤال يعتبر صعبا لعدة أسباب منها أنه ليست لدينا نظرية  شعرية عربية كما يوجد في اللغات الأجنبية الأخرى، كما أنه ليست لدينا معاجم متخصصة لا في الشعر و لا في السرد. 

و لفتت إلى أن مشكل الشعر هو مشكلة التلقي، حيث نعيش ثقافة الصورة و الإنترنت، و بالتالي أصبح يصعب تلقي الشعر كما في السابق، إلا أن شعر ياسين عدنان قريب من روح العصر و منفتح على الكثير من الأجناس، وهو ما ينطبق على ديوانيه “رصيف القيامة” و “دفتر العابر”.

و أشارت إلى ياسين عدنان هو شاعر مشاء في علاقة ترابطية بين الجسد و الفكر  و جنون السفر و المشي، يجد مستقره في فضاءات بعيدة و في سياق شعري مسرحي، تشكيلي، و بالتالي فأعماله دائما تنشد الحرية في الإبداع و تنشد الإنسانية بلغة شعرية جديدة. 

و أضافت أن الأعمال الشعرية لياسين عدنان تواصل عبورها و انفتاحها على الثقافات و اللغات المختلفة، لافتة إلى عبارة “العبور” التي جاءت في عنوان مداخلتها ليس المقصود بها تخطي الحدود بين الأجناس الأدبية، التي لا يمكن تخطيها و لا يمكن الخلط بين الشعر و النثر، أو الشعر و السرد، مثلما لا يمكن الخلط بين الكتابي و البصري، أو بين أجناس القول و أجناس الشعر، و لكن يمكن خلق علاقات تداخل و حوار و تفاعل. 

و أبرزت أن العبور عند ياسين عدنان يقصد به العبور الشعري و السفر في القصيدة، حيث تمتلك هذ الأخيرة إمكانيات هذا الاحتواء الشعري الكمي مع غيرها من الأجناس الأدبية و كذلك الفنية البصرية، ما جعل قصيدته تمتاز بأصوات متعددة و بلغة شعرية خلاقة رائدة في خلق العلاقة مع الأشياء و مع العالم، لغته تصلنا بذاكرة شعرية عربية و غير عربية من أجل قراءة العالم، إنها لغة من صميم الحياة المعاصرة، غنية بالأسئلة و التساؤلات. 

و اختتمت بكون التنوع في الكتابة لدى ياسين عدنان بين الشعر و القصة و الرواية أكسبه نوعا من الثراء الثقافي، بالإضافة إلى انشغاله بالإعلام الثقافي الجاد و بالصحافة الثقافية، حيث الحاجة ماسة لهذا النوع من الإعلام الذي يوصل ثقافتنا للآخر، كما أن إشرافه على برنامج ثقافي أسبوعي سهر على تقديمه منذ 2006 (مشارف) على القناة الأولى و على مدى 12 سنة، كان يلزمه بقراءة العديد من الكتب و أحيانا تكون كتبا متخصصة و أكاديمية لمحاورة ضيوفه، مما أسكبه ثقافة شاملة و اطلاعا واسعا على مختلف المعارف. 

رسائل و معاني مضمرة في هوت ماروك

و بالعودة إلى رواية “هوت ماروك” تطرق عميد كلية اللغة العربية بجامعة القاضي عياض بمراكش أحمد قادم في مداخلة بعنوان “المضمر في “هوت ماروك” و التي ألقاها بالنيابة عنه الأستاذ الباحث بنفس الكلية فيصل أبو طفيل، قال هذا الأخير : كثيرة هي الأشياء المضمرة في رواية “هوت ماروك”، حيث أن القارئ عندما يلج هذا العالم الفسيح الذي يطل من خلاله الكاتب على الدروب و الهوامش يجد ما ما بين الأسطر عددا من الرسائل و المعاني. 

و أضاف أنه بالرجوع إلى القاعدة الحجاجية التي تؤمن بأن المصرح به لا يلغي المضمر، عندما عرفوه بأنه كل قول إذا صح في ذاته لزم عنه قول آخر، فإننا نجد العبارة تمتد لتلامس أمورا يظنها القارئ من خارج السياق الحكائي السردي متروكة لا تمت إلى الخيال بصلة. 

و أضاف أن تواجد الكاتب في رحاب جامعة القاضي عياض و مواكبته للتدافع الطلابي باختلاف تشكيلاته و توجهاته الأيديولوجية و السياسية، تجعلنا أمام تجربة حقيقية عاشها الكاتب يقدمها في هذا العمل الروائي بطريقة خيالية تجمع بين الإدراك الواعي و التجربة و القدرة على بناء الصور الذهنية للأحداث، حتى أن القارئ ليجد نفسه جزءا من السرد الذي يأخذه معه إلى الدروب القديمة و عبقها التاريخي و المهن التي تمارس فيها، قبل أن ينتقل بك إلى الجامعة عنوان البهاء الثقافي و النضال الطلابي و المجد الزائف. 

و ذكر أن المضمر في التحولات الاجتماعية و الثقافية التي تقدمها رواية “هوت ماروك” تشكل نوعا من المفارقة المبنية على الانسلاخ عن الواقع و طمس الهوية الفردية، عندما تحس الشخوص بتغير الوضع الاجتماعي، حيث يقدم السارد شخوصه بدقة متناهية وهو يصف مساكنهم و مقرات عملهم و سحنتهم و ملابسهم و هي مختلفة باختلاف الشخصيات و الوقائع، لكن يبقى الجامع بين كل هذه الفئات هو الانتماء للطبقات الهشة و الهامشية و السعي الحثيث للتحرر من الهشاشة و السعي إلى إثبات الذات، حيث أن أول ما يصادف القارئ هو رحال العوينة، ذلك الشخص الذي يصفه الكاتب بكونه قصير القامة، رقيق البنية، ذو الوجه الفأري و العينين الضيقتين، لا يلجأ إلى العنف إلا حينما يشعر بالاختناق.

About Post Author