مها المادي.. راعية الثقافة و التراث بمراكش
لقاؤها ب“سوزان بيديرمان“ مهندسة ديكور سويسرية قادها عشقها للزربية المغربية إلى مراكش، كان حاسما لكي يحول مسار مها المادي من شابة طموحة تريد أن تبني مستقبلا زاهرا يتلاءم و إمكاناتها المتفردة بعيدا عن موطنها الأصلي مراكش، إلى امرأة همها إعادة الاعتبار للثقافة و التراث اللذين تزخر بهما مدينة البهجة.
“مغربيات“ التقت مها المادي مديرة مؤسسة “دار بلارج” لرعاية الثقافة و التراث للحديث عن تاريخ الدار و عن علاقتها بسوزان و عن الوضع الثقافي بالمدينة..
هوة ثقافية بين جيلين
فتحت “دار بلارج” أبوابها أواخر سنة 1999 من طرف السيدة سوزان بيديرمان وزوجها ماكس إليوت المواطنان السويسريان. شاءت الظروف أن تكون مها المادي بينهما في تلك الفترة. تقول مها بهذا الصدد “أتشرف بكوني عضو مؤسس ضمن من قاموا بتأسيس هذه المؤسسة التي ترعى الثقافة و التراث بالمغرب و التي ساهمتُ من خلالها بشكل كبير في مصالحة ساكنة المدينة مع هويتهم. وتضيف مها ل“مغربيات“ الجيل السابق تعذر عليه أن يمرر الثقافة المغربية الأصيلة للجيل الذي تلاه بسبب تسارع التطور التكنولوجي و الانفتاح الذي جعل مسألة تمرير الثقافة و الهوية صعبة المنال، وهو ما خلق جيلا غريبا عن ثقافته، وبالتالي فدور هذه المؤسسة هو كيفية إرجاع آلة الزمن إلى الوراء قليلا إن شئنا القول، و ترميم هذه الشرايين التي تصل بين الجيلين بعد أن تمزقت الأوصال بينهما، و أصبحا بعيدَيْن عن بعضهما البعض“.
تحكي مها أن ولوجها ل“دار بلارج“ كمساعدة لسوزان كان بالنسبة لها أشبه ما يكون ب“أليس في بلاد العجائب“. كل شيء كان مثيراللدهشة و الإعجاب أمامها. فالصدفة وحدها أو الموعد الذي حدده القدر كما يفعل دائما في غفلة منا، هو من قاد مها لأن تلتقي مع رفيقتها سوزان، لتندهش من قدرة هذه السيدة الأجنبية على معرفة الكثير من ثقافة المغاربة و تراثهم و بالهاجس الذي يسكنها للحفاظ على هذا الزخم الثقافي الغني من الاندثار.
خلال سنوات الدراسة الأولى في مدرسة “les soeurs” بمراكش كانت مها تسمع دائما، على لسان المدرسات الأجنبيات، أن الأشياء الصغيرة هيالتي تصنع الفوارق الكبيرة، تقول : لطالما تساءلت عن بسبب تفكيرهم )الأجانب) بهذه الطريقة، ثم تضيف : ساعدني كذلك أنني تربيت في كنف جدة والدي في بيت كبير، وكانت لها “دويرية“ عبارة عن بيت صغير في أعلى الدار الكبيرة، كنا نطلق عليه، هزلا، برج المراقبة. مع جدتي لأبي، و سوزان من بعدها، تعلمت أن تراثنا وثقافتنا ينبغي أن يكونا مصدر اعتزاز وفخر بالنسبة لنا. في أي مجال كان نحن بحاجة لتراثنا الغني، سواء في السياسة أو الطب أو العلم أو الاقتصاد أو الأدب، لا يمكن الاستغناء عن الثقافة.
القبلة على يد عجوز أو شيخ أو الصدقة التي نمنحها لفقير عابر أو التحضيرات التي تسبق الاحتفالات الشعبية وغيرها.. هذه التفاصيل الصغيرة هي من سيحدد غدا طريق بناء مجتمع يعتز بثقافته وتراثه. هكذا كانت سوزان تفكر، تضيف مديرة دار بلارج “أحبت سوزان مراكش و عملت على ترميم هذه الدار التي بنيت سنة 1930 على أنقاض فندق ربما يعود تاريخه إلى المرابطين أو الموحدين، لا يُعرف زمنه بالتحديد“ .
“يتيمة“ تدعى الثقافة
حاولت سوزان، بعد اقتنائها لفضاء “دار بلارج“ أن ترمم الدار دون أن تغير من شكلها المعماري الأصلي، حيث تم الحفاظ على الزخرفة و الزليج و الجبس و الخشب وكل ما كان يميز شكلها الفني، لم يتغير منه شيئ.
لم أر في حياتي شخصا يحترم الناس وثقافتهم وتراثهم بالشكل الذي رأيت عليه سوزان. مهما قلت بحق هذه السيدة لن أستطيع أن أصف حسها الإنساني و تقديرها للثقافة المغربية الأصيلة، كانت مثال للمرأة المحترمة و المثقفة بكل ما تحمله الكلمتين من معنى. تؤكد مها، ثم تضيف : عشقها للزربية المغربية هو من قادها للمجيء إلى المغرب، حيث كان هناك معرض للزرابي، وبدعوة من سفير ألماني سابق بالمغرب و كان يقطن بدرب القاضي من شدة عشقه للمدينة الحمراء، ومع معرفته المسبقة بحبها لهذا المنتوج التقليدي دعاها سنة 1995لحضور المعرض، و أثناءه ستلتقي بالكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو، الذي كان يعد صديقا مقربا منها و من المؤسسة.
أثناء محادثتهما أخبرته عندما رأت أطفالا يتجولون بأزقة المدينة العتيقة أنها مستعدة للمساهمة في بناء دار للأيتام ظنا منها أن الأمر يتعلق بأطفال متخلى عنهم، وهو ما ضحك منه خوان و أكد لها أن هؤلاء يعيشون في بيئتهم و أن نوافذ بيوتهم تطل مباشرة على هذه الأزقة الضيقة، لكنه دعاها في المقابل إن كانت ترغب بالعناية ب“يتيمة“ أخرى تدعى الثقافة. تقول مها إن سوزان، التي لن تتعرف عليها إلا في أواخر 1998، هي من أخبرتها بهذه القصة.
استقطاب الساكنة
مع مرافقتها الجديدة ستتعلم مها أن تنظر للمدينة بعين أخرى غير تلك التي كانت ترغب دائما في ترك مراكش و العيش بمدينة اكادير، حيث تقول تعلمت من سوازان أن أرى من زوايا مختلفة، فلكل بيت من بيوت المدينة العتيقة مدخلان على الأقل، ولكل درب وزقاق مدخلان كذلك، و بالتالي لسنا مطالبين بأن نذهب عبر نفس المسلك كل يوم، ثم تضيف : أثناء مرافقتي الدائمة لها و لعب دور الوسيط بينها وبين ساكنة المدينة العتيقة، كان لابد أن أكون مهيأة لكل الأسئلة التي تطرحها سوزان حول الثقافة و التراث، وهو ما دفعني للبحث في تراثنا الغني، و لأن فتح دار بلارج لأبوابها تزامن، في نهاية التسعينيات، مع بروز ظاهرة اقتناء الأجانب للرياضات، حيث لم نعد نسمع إلا عبارة“كاوري و رياض“، كان لابد أن نعمل على تغيير نظرة الساكنة للدار عن طريق ابتكار أساليب ومشاريع جديدة تتماشى و ثقافة الساكنة حتى يمكنها لفت أنظار المراكشيين للدور الذي أنشأت من أجله.
لم تكن الثلاث أو الأربع سنوات الأولى سهلة بالنسبة لها، فقد عاشت فترة صعبة اضطرتها للتخلي عن نظرتها السابقة للمدينة و ساكنتها و ألزمتها بالنظر بشكل مختلف لمحيطها.
تقول مها : بعد ترميم الدار و فتحها في وجه العموم، كانت سوزان تصاب بالإحباط كلما نظمنا معرضا لا يحظى إلا باهتمام الأجانب فقط، وكانت تتساءل دائما عن عدم إقبال المغاربة على الأنشطة الثقافية ومنها المعارض الفنية.
بعد وفاة والدتها سنة 2002، ستفقد مها رافدا مهما كان يغذي فضولها المعرفي بالتراث . صحيح أن والدها كان يمدها بمعلومات عن الدقة المراكشية و عن طقوس النزاهة وطقوس تتعلق بثقافة المدينة، لكن التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية كانت بيد النساء فقط، مثل طقوس التحضير للأعياد (لعيد الصغير و العيد الكبير و العاشر)، وهنا ستجد مها نفسها في مأزق حقيقي لأنها لم تعد تجد إجابات لتساؤلات سوزان التي تتناسل فوق رأسها يوميا.
أصبحت مطالبة بأن تفكر في مشروع ثقافي ينهل من التراث لجلب جمهور مغربي، سيما و أنهم لم يكونوا متحمسين لفضاء تأسس على يد امرأة أجنبية، علما أن سوزان خلقته من أجلهم، وهنا فكرت مها في تنظيم حفل عاشوراء، حتى يتسنى للنساء زيارة الفضاء و الاستمتاع بالعروض التي يقدمها. بعد ذلك ستتوالى العروض و المعارض التي أصبحت تستقطب شريحة واسعة من المغاربة، خاصة الشباب.
لم تغفل دار بلارج أن تفتح الباب في وجه الأطفال الذين كبروا بها حتى أصبحوا يافعين، ومع احتكاك سوزان بهم، أدركت أن المغرب يتوفر على ثروة بشرية حقيقة تتمثل في شبابه، وهو ما سيدفعها للتفكير في مشروع أكبر وهو خلق مدرسة للفن و السينما، حيث أنشأت المدرسة العليا للفنون البصرية بمراكش. مازاد من تشجيعها هو أن المخرجين الموهوبين لن يكونوا بحاجة إلى السفر من أجل التصوير، بالنطر إلى وفرة الفضاءات المتنوعة سواء عصرية أو تقليدية عتيقة أو صحراوية و بحرية وغيرها..
تقول مها : حرصت سوزان على اقتناء كل ما تحتاجه المدرسة من تجهيزات جلبتها من أجود و أحسن مصممي الكراسي و الطاولات في العالم، حتى تضمن تعليما جيدا بجودة عالية لأبناء المغاربة. بل حتى المعوزين منهم لهم نصيب في ولوج هذه المؤسسة بمعايير دولية.للأسف أنها لم تتمكن من حضور افتتاح هذه المدرسة، حيث وافتها المنية قبل ذلك، ومع شعورها باقتراب موعد رحيلها، حيث عانت في آخر حياتها من المرض، قررت أن يتابع طلبة الفوج الأول دراستهم هنا بالدار، لأن الأشغال بالمدرسة لم تكن قد انتهت بعد. وفي سنة 2007 فتحت المدرسة أبوابها في وجه الراغبين في دراسة الفنون البصرية، بحضور زوجها ماكس إليوت الذي لم يمهله القدر هو كذلك لإكمال المشروع، حيث توفي في فترة قصيرة بعد ذلك.
ورشات لفائدة النساء
معرض للصور بفضاء دار بلارج