في الذكرى 23 لرحيله.. فاس تحتفي بالتجربة الفنية للمسرحي محمد الكغاط
بقلم أحمد سيجلماسي
بمناسبة الإحتفاء بالمبدع الراحل محمد الكغاط، على امتداد خمس ساعات يوم السبت 29 يونيو 2024 بالمقهى الأدبي “لا كوميدي” بفاس، في الذكرى 23 لرحيله، لا بأس من التذكير بالبعد السينمائي في تجربته الفنية من خلال الورقة التالية:
تجاوز عمر التجربة الفنية للمسرحي المغربي الراحل الدكتور محمد الكغاط (1942- 2001) أربعة عقود، فقد كانت الانطلاقة سنة 1957 عندما نشر أول نص صحافي له بجريدة “العلم”، وبعد ذلك تشعبت اهتماماته وتنوعت عطاءاته.
يمكن الوقوف في هذه التجربة على المكونات الأساسية التالية:
1، التداريب والأنشطة المسرحية المختلفة.
2، البحث الاكاديمي الجامعي وتأطير الطلبة.
3، الممارسة الإعلامية المكتوبة والمسموعة.
4، الترجمة والتأليف والإخراج المسرحي.
5، التشخيص المسرحي والسينمائي والتلفزيوني.
6، التنشيط الثقافي والفني.
فيما يلي إطلالة مركزة على البعد السينمائي في هذه التجربة الفنية:
محمد الكغاط سينمائيا :
لم يكن محمد الكغاط مسرحيا فحسب بل شارك إلى جانب أنشطته المسرحية المتنوعة في أعمال سينمائية منذ مطلع الستينيات من القرن الماضي وواكب الانطلاقة الرسمية للسينما ببلادنا. ويمكن اعتبار عمر تجربته مع السينما أطول نسبيا من عمر تجربته مع المسرح، كيف ذلك؟
1، المشاهدات السينمائية الأولى و لحظة الانبهار :
تصوروا معي الطفل محمد الكغاط، تلميذا في المدرسة الابتدائية في أواخر الاربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي وهو يشاهد أفلام شارلو وباسطر كيطون ولوريل وهاردي وغيرها في فترة تاريخية تميزت بانفتاح المجتمع المغربي (وخاصة الفاسي) على العروض السينمائية المختلفة التي كانت تنظم للتلاميذ داخل المؤسسات التعليمية (بآلة العرض 16 ملم) وللعموم بالهواء الطلق بباب بوجلود وباب الساكمة وباب محروق وباب فتوح وغيرها من الفضاءات المفتوحة، من طرف القوافل السينمائية التابعة للمركز السينمائي المغربي بعد تأسيسه سنة 1944 وقبل ذلك. وتصوروا معي أول احتكاك له وهو يافع بعروض القاعات السينمائية التجارية التي كان عددها وافرا بفاس قبيل وبعد استقلال المغرب سنة 1956، خصوصا قاعة سينما الملكية، بفاس العتيقة، القريبة من حي “راس القليعة” الذي ولد وترعرع فيه.
إن الكغاط، شأنه في ذلك شأن مجموعة من الأطفال واليافعين الذين جايلوه، وقف عند تعاطيه الأولي مع السينما كفرجة منبهرا أمام صورها المتحركة النابضة بالحياة. ولعل مشاهداته الأولى لأفلام فرنسية (وأروبية عموما) وأمريكية ومصرية وهندية وغيرها ولدت لديه عشقا للسينما ورغبة في معرفة أسرار صنعتها.
2، من المشاهدة إلى الكتابة الصحفية:
من هنا بدأ انكبابه على القراءة والبحث سعيا منه إلى التقرب من عوالم الصورة السينمائية بغية التمكن من تفكيك بعض طلاسيمها. وهكذا ستكون سنة 1957 هي أول محطة في تاريخه السينمائي الفعلي. لماذا؟ ببساطة لأنه سينشر خلالها أول نص صحافي له، وعمره 15 سنة فقط، بجريدة “العلم” حول موضوع “الخدع السينمائية”.
3، أول وقوف أمام كاميرا السينما سنة 1963:
بعد ست سنوات سيقف محمد الكغاط لأول مرة سنة 1963 كممثل أمام كاميرا السينما إلى جانب الممثلة فاطمة الركراكي في الفيلم الألماني الفرنسي المشترك “شهر عسل بالمغرب” من إخراج جان ماسون (Jean Masson)، وهو فيلم قصير يطغى عليه الطابع السياحي مثله مثل فيلم آخر لنفس المخرج بعنوان “المغرب الذي أحب” (1951) شارك فيه إبراهيم السايح، رائد دبلجة الأفلام في المغرب، كممثل في دور مرشد سياحي. وقد سبق لهذا الأخير أن أخرج بالاشتراك مع هذا المخرج الفرنسي فيلما قصيرا بعنوان “أسرار المغرب” (1955) من إنتاج المركز السينمائي المغربي والشركة الفرنسية للأفلام.
الملاحظ أن عقد الستينات من القرن الماضي تميز بانطلاق التجارب الفيلمية المغربية الأولى على شكل أفلام قصيرة ومتوسطة ستتوج بظهور أولى الأفلام الروائية الطويلة وهي: “الحياة كفاح” (1968) لأحمد المسناوي ومحمد التازي بن عبد الواحد و “عندما تنضج الثمار” (1968) للعربي بناني وعبد العزيز الرمضاني و”شمس الربيع” (1969) للطيف لحلو. ويعتبر هذا الفيلم الأخير، في نظر النقاد، أفضل الأفلام المغربية الروائية الطويلة في الستينات نظرا لصدقه وتمكن مخرجه من تصوير المعاناة اليومية بالدار البيضاء لموظف إداري بسيط قادم من البادية، بأسلوب لا يخلو من أصالة وإبداعية.
4، من الدور الصغير إلى البطولة المطلقة:
بعد الدور الصغير الذي شخصه محمد الكغاط باقتدار وتلقائية إلى جانب حميدو بنمسعود ومحمد عاطفي وعائد موهوب وفاطمة الركراكي في “شمس الربيع”، سيتيح له المخرج حميد بناني فرصة الظهور في عمل سينمائي متميز أثار ولازال يثير جدلا واسعا في أوساط النقاد والمهتمين بالسينما، يتعلق الأمر بفيلم “وشمة”(1970). والجديد هنا هو أن الكغاط سينتقل من الدور الصغير إلى البطولة شبه المطلقة. لقد شخص في هذا الفيلم دورا مركبا أبان من خلاله عن مقدرة في التعبير بجسده وقسمات وجهه وصمته أيضا عن معاناة البطل الشاب النفسية والاجتماعية.
يحكي فيلم “وشمة” رحلة البطل مسعود من ملجأ الأيتام إلى موت على الرصيف، مرورا بإقامة قسرية ببيت السي المكي (الأب بالتبني). وبين الملجأ والنهاية المأساوية يعيش مسعود رفقة مجموعة من المهمشين معرضا للقهر الأبوي ولكل أشكال الكبت التي تفرزها علاقات اجتماعية تسود فيها سلطة الأب.
في حوار أجريته مع المخرج حميد بناني حول هذا الفيلم سألته “كيف جاء اختيارك لمحمد الكغاط بطلا شابا للفيلم؟” فأجاب: “عندما كنت بصدد اختيار الممثلين (الكاستينغ) اقترح علي المسرحي محمد تيمود، الذي ترجم معي حوارات الفيلم من الفرنسية إلى العامية، صديقه محمد الكغاط. وعندما التقيت بهذا الأخير أحسست به وتيقنت من أنه ممثل متمكن ومثقف”.
لقد كتبت نصوص كثيرة حول هذا الفيلم من طرف نقاد مغاربة وأجانب، أجمعت جلها على أن الفيلم فيه ما يؤشر على أن مخرجه متمكن من أدواته ويحسن إدارة ممثليه وله خلفية ثقافية صلبة (فلسفية بالأساس) أهلته لكي يبدع هذا الفيلم الذي يعتبر علامة بارزة في تاريخ الإبداع السينمائي المغربي.
5، محمد الكغاط بعد “وشمة”:
كان فيلم “وشمة” بمثابة الفرصة الأولى التي منحت للكغاط لكي يبرهن على قدراته التعبيرية كممثل سينمائي، وللأسف الشديد لم تتكرر مثل هذه الفرصة إلا نسبيا في العملين الأخيرين اللذين شارك فيهما سنة 2000 وهما الفيلم الطويل الأول لجمال بلمجدوب “ياقوت”، المصور بفاس في صيف 1999، والفيلم القصير الثاني للمخرج محمد العبداوي “همسات”، المصور بطنجة سنة 2000. ففي الفيلم الأول شخص الكغاط باقتدار ملحوظ دور عالم من علماء القرويين إبان مناهضة الاستعمار الفرنسي، أما الفيلم القصير، الذي يتمحور حول تيمة اللاتواصل بين الرجل والمرأة، فقد تقاسم فيه البطولة مع شقيقه عز العرب وممثلين واعدين آنذاك أبرزهم هدى ريحاني. ويمكن القول أن هذين العملين الأخيرين قد أعادا الإعتبار نسبيا للكغاط كممثل لم توظف طاقاته الإبداعية في السينما بما فيه الكفاية. ويبدو لي شخصيا أن الأدوار الصغيرة التي أسندت له في فيلمي “ليلة القتل” (1992) لنبيل لحلو و”للا حبي” (1996) لمحمد عبد الرحمان التازي لم تكن في مستوى تطلعاته وقيمته كممثل مسرحي وسينمائي له تجربة طويلة نسبيا.
الملاحظ أيضا أن الكغاط لم يقف أمام الكاميرا فحسب بل كانت له تجارب وراءها أيضا كمساعد أول للمخرج مومن السميحي في فيلم “44 أسطورة الليل” (1982)، الذي صور جزئيا بفاس في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، أو كمساعد في كتابة الحوار العربي وفي الإخراج في فيلم “صلاة الغائب” (1995) لحميد بناني.
6، فيلموغرافيا محمد الكغاط:
يبدو من خلال هذه الفيلموغرافيا أن محمد الكغاط عايش التجربة السينمائية المغربية منذ انطلاقتها الفعلية في الستينات من القرن الماضي، وكان له حضور في هذه التجربة، عبر محطات متعددة، لعل أهمها تشخيصه لدور مسعود في فيلم “وشمة”، الذي يعتبر بمثابة البداية الحقيقية إبداعيا للسينما ببلادنا، فحصيلة الأفلام المغربية والأجنبية التي شارك فيها أمام أو خلف الكاميرا قاربت رقم العشرين. كما كانت له أيضا مشاركات كممثل في بعض الأعمال التلفزيونية المغربية والأجنبية: مسلسلات وأفلام.
7، الكغاط مؤطرا ومنشطا جمعويا:
يعتبر محمد الكغاط واحدا من الأساتذة الجامعيين الأوائل الذين انفتحوا بشكل ملحوظ على ثقافة الصورة السينمائية في رحاب كلي الآداب والعلوم الانسانية (ظهر المهراز) بفاس وخارجها. ففي واقع تعليمي جامعي كان، بحكم طابعه التقليدي وتراكم مشاكله، يقصي الصورة وثقافتها من برامجه وتخصصاته، أقدم الأستاذ الكغاط على الإشراف على أول بحث جامعي حول “النقد السينمائي بالمغرب” أنجزه الطالب آنذاك العربي العلوي (المخرج عز العرب العلوي حاليا) سنة 1996. وقبل ذلك أشرف الدكتور محمد الكغاط على تأطير بحث من بحوث الإجازة أنجزه الطالب آنذاك حميد اتباتو حول موضوع “السينما المغربية والبحث عن الهوية”، وفيما بعد كتب تقديما لأول كتاب للدكتور حميد اتباتو بعنوان “السينما المغربية.. قضايا الإبداع والهوية”.
إن حضور الكغاط في تجربتنا السينمائية الفتية، بغض النظر عن قيمة هذا الحضور وحجمه، لم ينحصر في الجوانب المذكورة أعلاه بل تعدى ذلك إلى مجالات التنشيط الثقافي الجمعوي المختلفة. ودون الدخول في تفاصيل هذا الحضور الجمعوي تكفي الإشارة إلى جملة من الأنشطة الثقافية كان لحضوره دور كبير في نجاحها وهي: حفل تكريم الممثلة القديرة أمينة رشيد بفاس (مارس 1996) وحفل تقديم كتاب “المخرجون السينمائيون المغاربة.. دراسة ودليل” للناقد خالد الخضري (فاس/ يناير 1997) وندوة “السينما المغربية: واقع وآفاق” بمشاركة المخرجين عبد القادر لقطع ومحمد إسماعيل وبعض النقاد (فاس/ 2000)… وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حيوية الرجل وتشعب اهتماماته الفنية والثقافية.