تجليات الفانتاستيكي في رواية “استيبانيكو” للكاتب محمد البوعبيدي
بقلم محمد جوهر
تقديم :
الرواية فن امبريالي على اعتبار أنه يلقي بظلاله على مجموعة من الأنواع الأدبية المجاورة له في عملية تعالقية؛ وبكونه- أي فن الرواية- قادر على بسط سيطرته ليجذب إليه أنواعا أخرى كالسرد التاريخي، وأدب السيرة، وأدب الرحلة والملحمة؛ وفن الشعر وفن القصة؛ وأدب الخاطرة؛ وغيرها من الأنواع الأدبية التي تشكل إضافة نوعية لفن الرواية.
من منطلق هذا الكلام؛ قد تصير العملية الإبداعية مغامرة في استلهام التخييل الفنطازي، فيتورط الكاتب في خلق صور ومفردات تضفي في مواضع من العمل الإبداعي نوعا من المفارقة الإبداعية بين الواقعي واللاواقعي، المعقول واللامعقول؛ بين الكائن والممكن، بين الوعي واللاوعي؛ قد يتجلى بعضها في ثنائيات ميتافيزيقية؛ كل ذلك في عملية تفاعلية تستفز القارئ وتورطه هو الآخر في عملية الافتتان بالعمل الإبداعي.
إن النص الروائي والإبداع بصفة عامة يبقى مفتوحا على قراءات متعددة، واشتغالنا على الجانب الفانتاستيكي في هذه الرواية كان الدافع إليه حضوره القوي كآلية سردية توسل بها الكاتب في تقديم متنه، وشكل عنصرا مهما في عملية تأثيث الفضاء الروائي. وما دامت الكتابة غواية، فإن الكاتب مارس علينا كقراء غوايته من خلال عنصر الفانتازيا، الذي شكل محور اهتمامنا في هذه الورقة، والتي تبقى قراءة ضمن مجموعة من القراءات الممكنة…
اللغــــة أداة التــعبير والنسج والسبــك
يتوسل الروائي في إبداعه بعنصر التخيل ،على اعتبار أن التخيّــل أو التخييل يعد عنصرا مهما داخل الأجناس الأدبية، ومؤثتا للصورة الجمالية عبر انتقاء الألفاظ؛ مما يجعل القارئ مفتتنا بالمقروء سواء كسر أفق انتظاره أو وافقه ، جاثما أمام الغواية الممارسة عليه من خلال السبك اللغوي والتخييل الفادح الإحكام، وتجليه بشكل صارخ وصريح دخل رواية استيبانيكو كيف لا؛ والرجل ممن يكتبون الشعر؛ والأمر بدهيٌّ أن تجد امتدادا للنفس الشعري يولف الجمل النثرية في مواضع شتى، مع حسن التخلص من حدث لحدث دون أن يشعر القارئ بارتباك او تشويش في عملية توالي الأحداث ؛ أليس الأسلوب هو الرجل كما قال الناقد الفرنسي “بوفون”؟ بلى؛ وصاحبنا في ذلك يثبت الأمر بفداحة لغوية ذات سبك جمالي..
تجليات الفنطازي“الفانتاستيكي” داخل المتن الروائي:
إن اشتغال الفنتازي أو العجائبي داخل المتن الروائي ، فرضته الرحلة نحو العالم الجديد والمقصود به :أمريكا الشمالية وكذلك الجنوب الغربي منها، فبالرجوع إلى تاريخ الرحالة مصطفى الزموري الملقب باِستيبانيكو، والوقوف عند الرحلات الاستكشافية التي شارك فيها، وهي رحلات مليئة بالمغامرات والتشويق تضعك أحيانا في حضرة العجيب والغريب، تأتى هذا الانطباع من خلال تتبع مسار السرد داخل هاته الرواية موضوع القراءة، فحين تطاوع اللغة صاحبها يتماهى الواقعي بالعجائبي ليصير الأمر سيان؛ سرد في قالب لغوي محبوك تتحقق معه الغاية الفنية الجمالية يشد المتلقي إلى تلقف المزيد، ومن هنا تأتي مشروعية السؤالين الآتيين:
- – أين يتجـــلى الحضور الفانتازي أو الفانتاستيكي التخييلي داخل رواية استيبانيكو؟
- – كيف تفاعل الفانتازي/ الفانتاستيكي مع التاريخي في عملية تقديم المحكي؟
بالرجوع للمتن الحكائي تستوقفنا بعض العناوين التي اختارها الكاتب في بناء وتأثيث الفضاء الروائي؛ عناوين منتقاة بدقة أدبية يتمظهر في بعضها البعد الغرائبي والعجائبي، والذي امتزج حتى بالواقعي في لعبة سردية فاتنة، من أمثلة ذلك قصة صخرة الأربعين، حيث يقف القارئ عند شخصية “شمهروش” او ملك الجان كما يروى؛ شخصية لها دلالاتها العجائبية؛ بسبب غضبه من الناس بأفعال مخالفة لأوامره، وضع حجرا ضخما في منبع النهر في تادلة، فتسبب في جفاف واد أم الربيع أو كما كان يسمى بنهر وانسيفن؛ وساد العطش النبات والناس؛ وذبلت الأزهار؛ و”شمهروش” تقدم له القرابين؛ والهدايا لسنين طويلة؛ وكل سنة يقام له احتفال؛ لكنه تجبر وطغى؛ ليظهر من يقارعه حتى يعود الماء للنهر ويتدفق الينبوع؛ وتعود الحياة في الزرع والإنسان؛ إنه العالِم والرمز الديني سيدي رحال، وهنا تتمظهر ثنائيتان: العالم الخفي والعالم الظاهر، وإنا شئنا قلنا: ثنائتي التجلي والتخفي؛ “شمهروش” قوة خفية لا يحق لنا أن راه لأنه من الجان، والثاني إنسان ويحظى بثقة بني جنسه، يملك سلطة العقل ومتسلح بسلطة العلم وبمباركة العلماء المشيعين له من أجل مقارعة الجان؛ تواجهت القوتان؛ تزحزحت الصخرة فانتصر سيدي رحال وعادت المياه لجريانها، معها عادت الحياة بعدما تــزحزحت الصخرة عن الينبوع …. لتتأكد مقولة الخير ينتصر على الشر.. معنى مضمر بُعِث من رحم هذه الحكاية ذات البعد الخرافي العجائبي..
وتستمر الرواية في البوح بعجائبيتها المتاخمة لواقعيتها في الآن ذاته ؛حين يستوقفنا العنوان الموسوم بالواقع والأسطورة، حينها تتجدد الثنائية الصارخة والتي تعلن نفسها مادة للاشتغال داخل المتن الروائي ؛ وهي مزاوجة قصدية استدعاها العمل الفني فتمنحه السيرورة في بنا ء النص ككل ؛ أسطورة مدن الذهب السبع أو ما سمي بالفردوس المفقود، بتلك الارض المسماة “سيبولا”؛ هي حاليا تعرف بالجنوب الغربي للولايات المتحدة الأمريكية ، “لا محالة أن هذه الأسطورة مخترعة من طرف الكنيسة لتبرئة نفسها وتبرير تقتيلها لشعوب كاملة؛ وإثبات أن ما تقوم به، هو حقها في استرداد المفقود. هكذا جاء على لسان السارد انتهى الشاهد…
ويستمر الكاتب في زخرفة سرده عبر استدعاء الأسطورة إلى بيت الحكي، في تماهي الخيالي مع الواقعي عبر لعبة سردية محبوكة، يترك الكاتب للقارئ فك شفراتها بإعمال فكره، فكل أسطورة توظف في العملية السردية بأجوائها الفانتاستيكية، يتغيا الكاتب من ناحية أولى خلق متعة فنية جمالية؛ ومن ناحية أخرى ربما توخي رسالة عبر استدعاء التاريخي المتماهي مع الأسطوري، إذا سلمنا أن العمل الأدبي الإبداعي له مقصديته، ويستمر الكاتب في استدعاء الفانتازي عندما نقف عند أسطورة إكسير الحياة أو ينبوع الشباب؛ مفاد الأسطورة أن: إكسير الحياة ماء من شربه أو استحم به تعود إليه نظارة الشباب وقوته؛ ويعيش حياة أبدية، ويصير من الخالدين، وأي خلود إن كان الإنسان فان؟ استيبانيكو نفسه تعجب من الأمر وبصوت السارد استفسر متعجبا:” أمر عجيب، هل يصير الإنسان خالدا؟ وإذا فأيّ معنى للحياة عنده؟ لا يكمل معنى لشيء في هذه الحياة إلا لأنه يموت ويصير جزءا من الماضي”، هي ثنائية الخلود والفناء، وهنا يستلهم الكاتب قصة من الحقل الديني ذات البعد الواقعي لتجاور اللاواقعي في أسطورة إكسير الحياة، تتجلى المفارقة حتى في الواقعي حين يتعطل الوعي فيمارس الفرد طلاسيمه لغاية في نفس يعقوب كما يقال، مثلما حدث في قصة موسى عليه السلام مع اليهودي الحداد الذي استغل غياب نبي الله موسى عليه السلام؛ فصنع لهم عجلا من ذهب وفـــتن القوم بعبادة هذا الصنم، الأمر الذي اغضب نبي الله فقام بتحطيمه؛ بالمقابل يهيم اليهودي؛ تائها… كما جاء في المتن الروائي: “يحكى بأن اليهودي لا زال تائها في الأرض، وفي كل زمن يحكي أحدهم بأنه رآه حيا يطلب الموت لكن الموت لا يأتيه عقابا له…”.
الدهشة إحدى عناصر الجمال الأدبي، والأمر كذلك عندما ينبع من الفانتاستيكي، فعندما يصل “استيبانيكو” إلى “قرية القلوب” تحضر الغرائبية، حين يخبر “دورانتيس” سيد محمد الأزموري بأنه “يوم وصل إلى هذه القرية قاموا بإهدائه الكثير من قلوب الغزلان مع العلم بأن القلب هو الأكثر أهمية في طعامهم، يقولون بأنه يقوي الجسم ويمنح السعادة…”.
إشراك المتلقي أمر يتغياه كل كاتب من عمله، فالنص يكتب لقارئ، وهذا القارئ يقوم بتفعيل القراءة، وممارسة التأويل، وإثارة الأسئلة نحو كشف المضمر في أسطورة جلجامش وقصة إكسير الحياة؛ وقصة موسى مع اليهودي كما سبق ذكره، وقد يكون أحد هذا المضمر: انتصار الحق على الباطل والخير على الشر..
تجليات التخييل التاريخي في المتن الروائي:
الحديث عن التاريخ واشتغاله داخل المتن الروائي، يجرنا نحو الحديث عن المادة التاريخية؛ التي شكلت إطارا مرجعيا للكاتب يوظف هذه المرجعية سردا، متوسلا بأدوات الكتابة الروائية، محسنا السبك بين التاريخي الواقعي وبين التخيل الأدبي، حين يتقاطع التاريخي مع الروائي وفق علاقة ترابطية؛ فالإنسان في حد ذاته سيرورة زمنية، والأديب جزءا منه فلا مراء أن يستدعي الروائي بشكل أو بآخر التاريخ إلى بيت روايته، فإن كتب أبدع؛ وإن استشهد بشاهد أقنع، وللمتلقي أخضع؛ هي عملية إبداعية صرفة لمن يتقن فن الإقناع في إبداعه، ومن ثم أمكننا القول: إن التخييل التاريخي كمادة للاشتغال يصبح مادة متشكلة حين يتفاعل فيها الجانب التوثيقي والوصفي مع التخييل، ليعانق هذا التشكل عوالم الجمال ساهم فيها التخييل كآلية سردية يغترف الروائي فيها من معين الشعر والأسطورة والحكايات الشعبية وغيرها، فيحصل امتداد لذلك داخل فضاء الرواية، وهذا ما لامسناه بشكل جلي في الرواية موضوع الاشتغال.
يقول الكاتب الروائي ميلان كونديرا في كتابه فن الرواية: “روح الرواية هي روح الاستمرار، كل مبدع ينطوي على التجربة السابقة على الرواية”، من هنا نجد امتــداد محمد البوعبيدي الشاعر إلى فضاء الرواية؛ على اعتبار أن فضاء الرواية لا حدود له عندما ينفلت التخيل من عــقاله ليلامس الكائن والممكن؛ وحين يحسن الشاعر استغلال الحس الشعري في ملامسة التاريخي؛ والاستفادة منه عبر بث الروح فيه؛ فتتداخل الشخصيات الواقعية بشخصيات متخيلة في لعبة لغوية محبوكة السرد ؛ يمنح للرواية بعدها التخييلي ويحــدد نمطها التاريخي.
عندما يقدم كاتب الرواية حقيقة تاريخية؛ فإنه يموضعنا أمام سردٍ تاريخيٍّ مطابق للواقع من حيث الأحداث والوقائع، متقنة النسج والسبك وبذلك يتحقق الإبداع عبر تقاطع الواقعي بالمتخيل.
على سبيل الختم:
كما بدأنا حديثنا نقول عود على بدء: تمارس علينا الرواية امبرياليتها في جزئها الفنتازي أو الفانتاستيكي، فتغوينا لذتها التي مارسها الكاتب على القارئ المتذوق لفن الرواية، فالكتابة غواية لمن يتقن فن الإغراء الأدبي، فإن كنت شاعرا فأنت أهل لذلك، فقديما قيل في الشعر العربي: لكل شاعر جني أو شيطان يلهمه القوافي، ولمحمد البوعبيدي نصيب من ذلك في رحلة امتداد نفسه الشعري داخل روايته هاته، فعندما ننظر إلى اشتغال الأسطورة كنمط للتفكير؛ ومحاولات فهم الوجود الذي يتموقع داخله الفرد كذات واعية؛ مفكرة؛ تدرك وتشك وتتساءل، والتوسل بالأسطوري في تماهيه مع الواقعي، غاية لفهم الطبيعة البشرية؛ وهذا ما جسد علاقة الرواية بالتاريخ؛ فنجد شخص مصطفى الأزموري أو الزموري؛ بحقيقته التاريخية اكتسب الرمزية الأسطورية في شخصية استيبانيكو، وإن أخذ لقب ابن الشمس وصارت نهايته مجهولة وغير معلومة في قبائل “الزوني”، ليكون مسار البداية كمسار النهاية، مصطفى الأزموري كان حرا في بلده الأصلي فجأة يجد نفسه يباع في أسواق النخاسة بالبرتغال، بعدها مستكشفا للعالم الجديد وفي النهاية يتخلص من طوق العبودية ليصير حرا، هنا نجد صوت السارد يقول: “حين كان مصطفى الأزموري” محمولا على أكتاف الهنود ويرفع رأسه للسماء كرسول، والطبول خلفه والمزامير والغناء، وبداخله صوت يردد:” نعم، إنه الفردوس المفقود، إنه الذهب الأصفر، إنه إكسير الحياة، إنها الحرية، تحررت أخيرا…”.
أخيرا وليس آخرا، نتساءل عن الغاية الأساس وراء هذه العمل الإبداعي لصاحبه محمد البوعبيدي: هل هي بعث الحياة في روح مصطفى الأزموري من خلال استدعاء تاريخه وسيرته الغيرية ذات الحمولة الفانتاستيكية كمثل العنقاء عندما يبعث من رماده…؟
الهوامش:
1. محمد البوعبيدي، “المغربي الذي اكتشف أمريكا“، استيبانيكو الطريق إلى “سيبولا“، ببلومانيا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020، القاهرة، ص، 70.
2.المصدر نفسه، ص. 114.
3. المصدر نفسه، ص. 115.
4. المصدر نفسه، ص. 147.
5. ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة: د. بدر الدين عردوكي، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1999، سورية، دمشق، ص، 25.
6. محمد البوعبيدي، مصدر مذكور، ص، 178.
محمد جوهر (أستاذ مادة اللغة العربية بالثانوي الإعدادي-مديرية القنيطرة).