المعلم « بوشتى ».. صانع العود بمراكش يستحضر ذكرياته مع الفنان سعيد الشرايبي
المعلم « بوشتى » واحد من أبرز صناع آلة العود القلائل بالمغرب، الذين بصموا العود بدقة الصنع ومهارة الحرفة. هو ابن مدينة مراكش الذي تشرب صناعة آلة العود على يد المعلم « عمر حميدوش ». اختارها منذ السنوات الأولى من حياته عندما دأب على تحويل صفائح الزيت لآلات موسيقية، بعد أن يضع عليها أوتارا ثم يشرع في النقر عليها، ما دفع بأسرته لأن تنتفض ضده بسبب ضجيج عزفه، وتقذف به نحو أول ورشة لتعلم حرفة النجارة، التي لم يستمر فيها أكثر من ست سنوات، ولما اشتد عوده و أصبح سيد قراره، ارتمي بعد ذلك في حضن المعلم « عمر حميدوش » صانع العيدان المعروف بمدينة البهجة (مراكش). مارس بوشتى صناعة العيدان بشغف و أخلص لها، فبادلته العشق و الإخلاص، ليكون بذلك أحد صناع العيدان المفضلين لدى العازف المغربي الراحل سعيد الشرايبي. « مغربيات » زارت بوشتى في ورشته التي شهدت مرور زبناء من نوع خاص و صناعة تحف فنية يعتبرها قطعا من روحه..
سعيد الشرايبي.. عازف استثنائي
إذا كان اختيار سعيد الشرايبي للمعلم بوشتى قد منح هذا الأخير اسما وسمعة في أوساط صانعي العيدان بالمغرب، فإن هذا الأخير استطاع أن يترك بصمته الخاصة على العود، حتى بات العديد من العازفين يعرفون توقيعه من سماع نبرة العود، ليشيروا له بالإسم، بعبارة « هذا العود ديال بوشتى».
تماما كما يترك العازف بصمته الخاصة من خلال النقر على الوتر، يضع الصانع كذلك توقيعه من خلال نبرة الصوت الصادرة عن الآلة، وطريقة الصنع و اختيار الخشب وما إلى غير ذلك من التفاصيل التي تحيل على الصانع كما تدل على العازف كذلك.
التحم اسم سعيد الشرايبي بعدد قليل من صناع العود بالمغرب، ومن بينهم المعلم بوشتى، الذي وثق فيه، و سلمه بعض مفاتيح الآلة، وهي تفاصيل عرف هذا الصانع كيف يلتقطها و يطورها ليصنع بعد ذلك عيدان كثيرة للفنان الراحل، حتى أنه لم يعد يذكر عددها اليوم، لكنه يتذكر جيدا كيف أن سعيد الشرايبي كان دقيقا في تفقد بضاعته (العود)، وما إذا كانت تنسجم مع المقاييس التي وضعها بين يدي المعلم بوشتى، خاصة فيما يتعلق بعود « السوبرانو » الذي جاء به الشرايبي ووضعه في عهدة بوشتى، مانحا ثقته التامة لصانع خبره وعرف أنه لا يقل عنه إبداعا ودقة في صنع ما يرغب فيه.
« الأستاذ » كما يحلو له أن ينادي سعيد الشرابي، لا يترك أي تفصيلة دون أن يقف عندها، يقول المعلم بوشتى. ثم يضيف « سعيد الشرايبي، كما عرفته أول مرة حين زارني بالورشة، بمعية محمد أميزو، أيقونة فن الملحون بمراكش، شكل دوما زبونا من نوع خاص، ولا يمكنني أن أنكر فضله عليَ، سواء في تعلم بعض المقاييس التي لم أكن أعرفها في صناعة آلة العود، أو من خلال بعض الملاحظات التي كنت آخذها بعين الإعتبار »، يضيف بوشتى.
المعلم بوشتى برفقة الفنان سعيد الشرايبي
طقوس ومزاج
في ورشة صغيرة بمركز التكوين و التأهيل المهني في حي « قبور الشٌو » بالمدينة العتيقة بمراكشِ، يقضي المعلم بوشتى يومه وهو منكب على صناعة آلات العود، بل حتى عندما يعود لبيته ليلا، فإنه يحمل معه مشاكل العمل، بعد أن يكون قد استعصى عليه حلها أثناء النهار، ليستيقظ صباحا وقد عثر على حل ما تعذر عليه في اليوم السابق، فينكب على العمل تحت سحر الشاي الذي يهيئه على نار هادئة و قد بتطلب الأمر وقتا طويلا ليصبح جاهزا و يرتشفه على مهل.
يعمل بوشتى وفق طقوس ما يعرف لدى المغاربة ب « الكانة » (أي المزاج)، شأنه شأن العديد من الحرفيين الصناع. إذا أحب قطعة، ارتبط وجدانيا بها ولا لا يتركها إلا وقد وضع آخر اللمسات لتصبح جاهزة للعزف. هو لا يعرف سر ارتباطه بقطع (آلات) دون غيرها. بمجرد ما ينتهي من صنع عود ويسلمه للزبون، حتى يدخل في حالة اكتئاب قد تلازمه أياما قبل أن ينقض على قطعة جديدة، تنسيه عشق حبيبته الأولى.
ل بوشتى طقوس خاصة في صنع العود الذي قد يستغرق منه ستة أشهر أو قد يتجاوز السنة، حسب ظروف العمل، و المزاج الذي يتحكم فيه بشكل يغضب الكثير من زبنائه، لكنهم يغفرون تماطله وكسله أحيانا، عندما يأتون لزيارته و يمدهم بكأس شاي يحمل توقيعه كذلك.
في ركن منزو من الورشة، ينكب بوشتى على تحضير براد الشاي، الذي يستغرق منه ما يناهز الساعة وهو يقلب الكؤوس في بعضها، بينما يكون الزبون منهمكا في العزف على العود، حتى تظهر له « الكشكوشة » التي يبحث عنها أعلى الكأس، وبعد أن يرتشف الزبون، الذي جاء يقتفي أثر عوده المنسي في مكان من الورشة، رشفة يكون طعم الشاي المميز قد أنساه فورة الغضب، ولا يتركه بوشتى إلا وهو راض تماما عن النتيجة. الشاي بالنسبة لزبناء الورشة هو المشروب السحري الذي يضاهي في نشوته نشوة القطعة الفنية الجميلة التي تنحتها أنامل بوشتى.
المعلم بوشتى منكب على عمله
زبناء من كل الأطياف
زبناء المعلم بوشتى، على أقليتهم، موزعون في أصناف متعددة، منهم الموظفون السامون هواة آلة العود، و منهم الموسيقيون المحترفون الذين يعرفونه جيدا، و أغلبهم يلجأ إليه إما لإصلاح آلة أصابها التلف أو من أجل عود جديد.
بالنسبة ل بوشتى فإن الأمر مختلف، لأنه يفضل أن يصنع عوده الخاص، على أن يصلح آلة لا تربطه بها أية علاقة. يغضب من الزبون الذي يساوم كثيرا في ثمن العود، لأنه يعتبر أن الآلة قطعة من قلبه وروحه و لا تحتاج للمساومة، ويفضل أن يؤدي صاحب الطلب المطلوب دون كثير من اللجاج و المماطلة.
مهما كانت مكانة الزبون و كرمه، فإن ذلك لا يشكل أهمية بالنسبة ل بوشتى، الذي لا يخضع إلا لمزاجه الخاص، و للعلاقة التي نسجها مع القطعة الخشبية التي يقلبها بين يديه، و يمسحها بمنشفة، يكون قد أغرقها في قطرات من الزيت، ثم يحكها بتفان كبير، وهو يتأمها كأنه ينظر لمعشوقته. آنذاك فقط إذا صادف هذا المشهد أحد الزبناء، فإن هذا الأخير يفهم جيدا كيف يمكن للصانع بوشتى أن يمضي الساعات الطويلة في مسح قطعة دون كلل أو ملل، و لا يغادر إلا بعد أن يفهم بأن الرجل ليس صانعا عاديا، و أن عوده لن يكون جاهزا قبل أن يكون بوشتى قد حوله لتحفة فنية تستحق عناء هذا الإنتظار الطويل.
ما يقلق بوشتى هو أن صناع العيدان لا خلف لهم، حيث أنه بالرغم من كونه أستاذ بمركز التكوين و التأهيل المهني، بورشة لصناعة آلة العود، إلا أن التلاميذ الذين يقبلون على تعلم هذه الصنعة قليلون جدا، و لا يأخذون الحرفة بشكل جدي يجعله راض على مستقبل الحرفة.
المعلم بوشتى يعزف على آلة العود