الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات الذكاء الاصطناعي (1/2)
د.محمد الخالدي
لعب التطور التكنولوجي دورا مهما في تغيير حياة الناس وجعلها أكثر يسرا وانتاجية، ومع الرقمنة دخلت البشرية مرحلة جديدة قوامها الانفتاح والتواصلية والتفاعل الآني والمتزامن والشفافية، فتغيرت القواعد والعلاقات بين الأفراد والمجتمعات، مما أثر بشكل كبير على الكثير من المنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية والثقافية، التي أصبحت تسابق الزمن من أجل التكيف مع عالم افتراضي يتطور بشكل مستمر ومتسارع. وبتغيره تتأثر الكثير من القواعد والمرجعيات. إلا أن التطور أصبح يتخذ أشكالا متقدمة جدا مع انتشار تقنيات وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي، التي أضافت أبعادا جديدة تقوم على سلطة الخوارزميات وقدرة النظم الآلية على التفاعل واتخاذ القرار.
بالرغم مما تتيحه النظم الذكية من إمكانيات ترفع الإنتاجية والمردودية وتحقق أعلى درجات الدقة والسرعة في تحقيق الأهداف، وتقلل المخاطر وتنجز عمليات وتوليفات يصعب على العامل البشري القيام بها بنفس فعالية ونجاعة العامل الآلي. إلا أن هناك مخاوف حقيقية تتعلق بذلك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمنظومة حقوق الإنسان، وبالأخص ما يرتبط بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بكل تمثله من مرجعيات فلسفية وتشريعية وقيم إنسانية. تلك الحقوق التي تتطلب وعيا إنسانيا عميقا باشكالياتها وقضاياها المتعددة المظاهر والأبعاد. فهل سيساهم الذكاء الاصطناعي في تعزيز هذه الحقوق ؟ أم أن النزوع نحو الأتمتة والبرامج الذكية سيفرغها من بعدها الإنساني ؟ كيف يمكن للنظم الآلية أن تعالج وضعيات اقتصادية واجتماعية تتطلب أعلى درجات الوعي الإنساني؟ هل سيكون العامل الآلي أكثر إنسانية من العامل البشري؟
مفهوم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية:
تشكل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية مجموع حقوق الإنسان المتعلقة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية الأساسية اللازمة لعيش حياة كريمة. وهوما يشمل حقوق العمل والعمال، والحق في الضمان الاجتماعي، والصحة، والتعليم، والغذاء، والمياه، والسكن، والبيئة الصحية.بكل ما يترتب على ذلك من مسؤوليات والتزامات تتحملها الحكومات والمنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة والأفراد وكل الجهات التي ينبغي تعبئتها دوليا وجهويا ومحليا، من أجل تحقيق عدالة اقتصادية واجتماعية وفق مبادئ التشاركية والانصاف.
تم التنصيص على هذه الحقوق في كل المرجعيات الدولية، خصوصا من خلال الإعلان العالمي لحقوق الانسان (1948) والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966). بالإضافة إلى مجموع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الموضوعاتية الخاصة بحقوق أو فئات معينة.
عل المستوى الوطني، ينص الدستور المغربي بشكل واضح على: الحق في ” العلاج والعناية الصحية، الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة ، الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة ، التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية ، الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي..” بالإضافة إلى ترسانة قانونية غنية بالمقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بهذه الحقوق.
مفهوم الذكاء الاصطناعي:
يصعب إيجاد تعريف موحد ودقيق للذكاء الاصطناعي، بسبب تنوع مجالاته وتباين وجهات النظر المهتمة بدراسته، لكن سنحاول في هذه الورقة تقديم تعاريف منتقاة قبل الخروج بتعريف إجرائي نتبناه في عملنا هذا.
تم تعريف الذكاء الاصطناعي (AI) باعتباره قدرة نظام آلي على أداء المهام التي تتطلب عادةً ذكاء بشريا. وهوما يرتبط بأنظمة تتوفر على مهارات ذكية مثل التعلم والتخطيط والتعميم.
ووفق المنظمة الدولية للتوحيد القياسي(ISO) واللجنة الكهروتقنية الدولية(IEC)، تم تعريف الذكاء الاصطناعي باعتباره “مجالا متعدد التخصصات ، يُنظر إليه عادةً على أنه فرع من علوم الكمبيوتر ، ويتعامل مع النماذج والأنظمة لأداء الوظائف المرتبطة عمومًا بالذكاء البشري ، مثل التفكير والتعلم“. كما عرف بكونه “قدرة الوحدة الوظيفية على أداء الوظائف التي ترتبط عمومًا بالذكاء البشري مثل التفكير والتعلم“ .
تعتمد نظم الذكاء الاصطناعي على ركيزتين أساسيتين: الذكاء والاستقلالية. يتمثل الذكاء في قدرة النظام على تحديد أفضل مسار للعمل لتحقيق أهدافه، أما الاستقلالية فتظهر من خلال الحرية التي يجب أن يحققها النظام لأهدافه، وهو ما يسمح له بتغيير سلوكه بحرية للتكيف مع واقع جديد لم يتم توقعه أثناء البرمجة.
يمكن أن نخرج بتعريف إجرائي مفاده أن الذكاء الاصطناعي هو مجموع التقنيات والتكنولوجيات التي تجعل الأظمة الآلية قادرة على القيام بعمليات معقدة بشكل ذكي ومستقل يضاهي الذكاء الإنساني بل ربما تتغلب عليه في جوانب الدقة والسرعة والفاعلية.
الحق في الشغل وأتمتة العمل:
إن تعويض العمل البشري بالعمل الآلي ليس وليد اليوم. ففي عام 1956، اعتمدت الدورة التاسعة والثلاثون لمؤتمر العمل الدولي “قرارًا بشأن الأتمتة” ، ينص على اعتبارها اتجاها سيكون له آثار على “الإنتاجية ، والتوظيف ، والتدريب المهني ، والأجور ، وساعات العمل ، والسلامة وظروف العمل الأخرى ، والضمان الاجتماعي ، ومختلف أشكال الحماية ضد البطالة ، والعلاقات بين أصحاب العمل والعاملين في مختلف البلدان “، مع التأكيد على ضرورة اتخاذ تدابير على المستوى الوطني “لتسهيل التكيف المنسجم مع التقدم التكنولوجي ، لتجنب أو تقليل الاضطرابات الاجتماعية والعواقب الضارة على المستوى البشري التي يمكن أن يسببها هذا التقدم“
لقد انطلق العمل بتكنولوجيات الأتمتة قبل عقود، في مجالات الأعمال اليدوية الرتيبة والتي تتطلب إتقانا وسرعة في الإنجاز، والأعمال الخطيرة التي يمكن أن تشكل خطرا على العامل “الانسان“. لكن مع الذكاء الاصطناعي انتقلت الأتمتة (Automatisation) إلى مجال الأنشطة البشرية المعقدة التي تتطلب تفكيرا وتنظيما واتخاذا لقرارات، مما وسع مجالات تدخل الآلة وهكذا أصبح النقاش حاليا ليس حول اللجوء إلى الأتمتة بل حول مسألة الاستبدال المعمم للبشر بأنظمة الذكاء الاصطناعي.
يتم التداول حول ثلاثة سيناريوهات تتعلق بتأثيرات الذكاء الاصطناعي على مجال التشغيل:
-
السيناريو الأول: قد يتسبب الذكاء الاصطناعي والأتمتة في بطالة تكنولوجية كبيرة؛
-
السيناريو الثاني: قد يتسبب الذكاء الاصطناعي والأتمتة في فقدان عدد من الوظائف ، دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى بطالة كبيرة.لكن سيحدث تحول في طبيعة وجودة الوظائف والمهن المتاحة، مما سيفرض على الأجراء تطوير خبراتهم من أجل التكيف مع متطلبات سوق الشغل الجديدة؛
-
السيناريو الثالث : لن يكون للذكاء الاصطناعي والأتمتة أي تأثير كبير تقريبًا على عدد الوظائف المتاحة ، بحيث سيساهم التطور التكنولوجي المرتبط بالذكاء الاصطناعي في خلق وظائف جديدة تتميز بالجودة وارتفاع الحافزية.
بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي حول مستقبل الوظائف، ستؤدي الأتمتة إلى زوال 85 ملیون وظیفة وخلق 97 ملیون وظیفة جدیدة في السنوات الخمس المقبلة، وسترتبط تنافسية الشركات بقدرتها على إعادة تأھیل الموظفین الحالیین ورفع مستوى مھاراتھم.
يظهر أن اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في سوق الشغل ستكون له آثار كبيرة على الحق في الشغل من خلال إعادة تنظيم العمل وما يسمح به ذلك من تسريح للعمال وتوظيف آخرين. والأكيد أن المسألة لا ينبغي النظر اليها بشكل عددي قائم عل المقارنة بين اعداد الوظائف المفقودة وتلك التي سيتم خلقها للتكيف مع متطلبات الأتمتة. فالأكيد أن أعداد العمال المفصولين لأسباب تكنولوجية سيرتفع. أما مسألة تطوير الخبرات فلا ترتبط غالبا بظروف العمال وإرادتهم بل بوجود منظومة متطورة للتكوين والتأهيل المهني، سواء داخل المقاولات أو من خلال مؤسسات عمومية تواكب الأجراء الذين فقدوا عملهم لأسباب مرتبطة بالتطوير التكنولوجي. خصوصا أن تشريعات الشغل تسمح بتسريح العمال لأسباب تكنولوجية، مما يفرض على الحكومات بلورة بدائل حقيقية تستثمر في إعادة تأهيل المستخدمين وفق متطلبات الأتمتة والذكاء الاصطناعي.
ينبغي على الحكومات والهيئات الرقابية استثمار تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في رصد التجاوزات المتعلقة بخرق قوانين الشغل والحماية الاجتماعية، خصوصا تلك المرتبطة بالتمييز وعدم احترام الحد الأقصى لساعات العمل الأسبوعية والحد الأدنى للأجور وتشغيل القاصرين وكذا استغلالهم في أعمال غير قانونية.
التنظيم العمالي والنشاط النقابي:
منذ سنوات الستينيات من القرن الماضي، حرصت النقابات على إدراج التغيرات المرتبطة بالأتمتة في اتفاقيات العمل الجماعية، لكن بالإضافة إلى التشاور قبل إدخال العمليات الجديدة ، يجب أن تكون قضايا مثل استخدام الخوارزميات أو الذكاء الاصطناعي أو تحليل معطيات العمال في مكان العمل أيضًا موضوعًا لمفاوضات العمل الجماعية، رغم أن هذه المفاوضات وغيرها من أوجه العمل النقابي تعرف تراجعا حقيقيا بسبب انتشار الأتمتة وما تسببه من تقلص في مجال العمل بدوام كامل10 . بالإضافة إلى ذلك، هناك أسباب أخرى تؤثر في تراجع التنظيمات العمالية والنقابية مثل انتشار العمل الحر المستقل وكل أنواع العمل عن بعد ناهيك عن الاعتبارات المرتبطة بالعروض المغرية للشركات الكبرى وحساسيتها المفرطة اتجاه أي عمل منظم من طرف الأجراء. لكن هذه الوضعية بدأت تعرفت تغيرا مهما، حيث انطلقت دينامية جدية بين العاملين في المجال الرقمي تسعى إلى التنظيم والدفاع عن مصالحهم، من بينها ” Alphabet Workers Union ” وهي نقابة تأسست من طرف المئات من العاملين بشركة “Google” ، من أجل دمقرطة العمل ، حتى يتمكن الأجراء من ممارسة وظيفتهم ، وتعزيز العدالة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية وإنهاء التفاوتات غير العادلة بين الوسطاء والعاملين في المبيعات والعقود والموظفين بدوام كامل.
إن هذه الحركية الجديدة تعكس تراكم الكثير من المواقف التي سجلها العاملون اتجاه مجموعة من القضايا، كالتعويضات الكبيرة التي مُنحت لمديرين تم فصلهم بسبب اتهامات بالتحرش الجنسي.
في عام 2018 ، و المخاوف الأخلاقية التي يثيرها توقيع عقود تكنولوجية مع الجيش الأمريكي ، والفصل غير المبرر للباحثة في الذكاء الاصطناعي “Timnit Gebru ” سنة 2020، بسبب احتجاجها على استخدام خوارزميات تؤدي إلى التحيز بواسطة خاصية التعرف على الوجه اعتمادًا على لون بشرة الأشخاص أو تفضيل انتشار رسائل الكراهية. هذا إلى جانب اتهامات وجهتها نقابات عمالية إلى شركات بخصوص تعقبها لمستخدميها ومراقبتهم خلال عملهم عن بعد.
إن تنامي هذه الاتهامات والمخاوف خلقت نقاشات داخل البرلمان الأوروبي بخصوص ضرورة وضع قواعد أخلاقية لاستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي، في ذلك يقول عضو البرلمان الأوروبي بيتار فيتانوف : “ينبغي ايجاد توازن دقيق بين الحفاظ على حماية البيانات ، والحفاظ على حقوق الخصوصية ، والحق في الحرية ، وحرية التعبير ، والأمان من ناحية أخرى.”
يعتبر إعلان تورنتو من المبادرات التي حاولت خلق دينامية دولية في مجال حماية الحق في المساواة وعدم التعرض للتمييز في نظم التعلم الآلي، وذلك من خلال دعوة الجهات الفاعلة في القطاعين العام والخاص الى احترام التزاماتها ومسؤولياتها اتجاه حقوق الانسان عند استخدام وتطوير وتوزيع نظم التعلم الآلي، بكل ما يضمن حماية الأفراد والجماعات من التمييز.
د. محمد الخالدي : مختص في الدبلوماسية الاقتصادية وتأثيرات الذكاء الاصطناعي