الجسد الثقافي بقلم فاطمة نوك
فاطمة نوك
الجسد الثقافي
“أن بداهة الجسد لا يمكن أن تنسينا أنه واقعة ثقافية“، هكذا يخبرنا خبراء العلوم الاجتماعية الذين يؤكدون انه قبل ان يكون كتلة من اللحم والشحم، فهو نافذة يقرأ من خلالها البناء الثقافي للمجتمع. كيف يتعامل المغاربة مع أجسادهم، ما تأثير تمثلاتهم عنه على علاقاتهم الاجتماعية، وكيف يمكن قراءة “الانفجار” الحاصل اليوم في الطلب على جسد “Trendy”؟
ليست مجرد ملاحظة تلك التي قادتنا لطرح بعض عناصر التفكير في هذا الموضوع، اٍذ أن مؤشرات كثيرة تسندها ، لقد صار الاهتمام بالجسد معطى واضحا، يعضده الطب والرياضة والاشهار وشبكات التواصل والاقتصاد ونمط العيش..، مع ذلك علينا التسلح بكثير من الحياد في بسط كل الآراء اذ أن الحديث عن الجسد يقود رأسا الى السجل الثقافي العام للمجتمع المغربي، وهو ما يجعل من الجسد “واقعة ثقافية” بتعبير عالم السيميائيات المغربي سعيد بنكراد الذي يشير الى أن علاقة الناس بأجسادهم تعكس، في كل الثقافات، نمط علاقاتهم بالأشياء المحيطة بهم، بنفس الوقت تحدد نمط علاقاتهم الاجتماعية، بحيث يكون الكشف عن كل أسرار الجسد، أو التستر على خباياه تأكيدا لقوة حضوره في كل حالات التواصل الإنساني، وأهميته في وضع التصنيفات الاجتماعية المسبقة : حالات اللون أو البدانة أو الثوب الدال على الانتماء إلى ثقافة بعينها..وغيرها .
في العمل في العلاقات الاجتماعية في مجال الصحة، الاقتصاد والثقافة والسياسة وغيرها، يحضر الجسد، ومن خلال أبعاد مختلفة متداخلة أحيانا متناقضة، أذ تحكم التناقضات الكثير من تمثلاتنا حول الجسد، خاصة الجسد الأنثوي يمكن الإشارة الى ما عرف باقتصاد الجسد الذي صنع ثقافة خاصة ترتبط بالموضة وصناعة الجمال والمعايير الصحية والرياضية، وكل هذه المعطيات تساهم بطريقة ما في النظرة والتمثلات والعلاقة مع الجسد لدى كل منا”. من جانبه يعتبر جواد ختام الباحث في العلوم الاجتماعية أن النظرة إلى الجسد الأنثوي يتداخل فيها ، تاريخيا، المقدس بالمدنس،الحلال بالحرام التجربة الفردية والسلطة الاجتماعية، فتعطي مساءلة هذا الجسد من مرجعيات مختلفة، جسدا بدلالات متعددة، وهو ما يقصد بالحديث عن جسد ثقافي رمزي.
شكل جسد المرأة موضوعا للإيروتيكا في الفن والأدب،…وكما يحضر في مجال التجارة والصناعة والاشهار يمكن أن يحضر سياسيا، يستحضر جواد حركة “فيمن” العالمية التي بدأت في اوكرانيا ووصلت حتى المغرب، والتي اختارت الاحتجاج والمعارضة والاحتجاج ضد الفساد السياسي من خلال الصدور العارية، كما يذكر بالتضييق الذي تعرضت له مما يعني المراقبة والتأطير الذي يخضع له الجسد.
جسد يستفز الطابو
في عدد سابق من مجلة نساء من المغرب، أثارت صورة عارضة عارية الكتفين تصدرت غلاف المجلة انتقادات عديدة، وقبلها وقفت الإعلامية نادية لاركيط عارية أمام عدسة مجلة فام دي ماروك،
كانت رغبة المجلة والمذيعة التي كانت حاملا التحسيس بالصحة الانجابية وبالهشاشة التي تعرفها نساء الهامش، و على الرغم من “القداسة” التي يمثلها الحمل ، الا أن صورة الجسد كانت تمردا و استفزازا للمواضعات الاجتماعية والثقافية لجسد المرأة . قبل بضع سنوات قدمت المخرجة المسرحية نعيمة زيطان مسرحية ” ديالي” لم تكشف فيها عن جسد المرأة، وإنما اختارت الحديث عن عضوها الجنسي، وقدمت شهادات نساء مغربيات يتحدثن عن عضوهن بالدارجة المغربية، كان ذلك مدعاة للكثير من الهجوم والانتقادات التي طالتها.ستتتعرض الفنانة لطيفة أحرار أيضا لهجوم غير مسبوق حين اختارت أن تستعين بمشهد عري في سياق مسرحيتها “رصيف القيامة“، لم يكن المشهد مجانيا حسب أحرار التي صرحت أنها “لم تستعمل جسدها للإغراء، بل حاولت إبراز الجسد في تجرده وعريه كجسد مولود للتو ومعصور بالمعاناة” ، لكن شتان ما بين القصد وردود الفعل التي تكشف التمثلات المجتمعية للجسد الأنثوي.
“التربية والتكوين الذي نتلقاه بشكل عام يجعل لدينا علاقة ملتبسة مع أجسادنا بالتالي أجساد غيرنا، تخبرنا حفيظة دليمي اعلامية “التربية التي تعطى للجنسين ليست حاسمة وواضحة فيما يخص الكثير من الأشياء ضمنها الجسد، فيبني كل منا علاقته ونظرته الخاصة للجسد استنادا على مجاله الجغرافي والثقافي والاجتماعي.تتمتع النساء في بعض دول إفريقيا مثلا بحرية أكبر فيما يخص كشف أجسادهن بسب الثقافة المحلية التي لا ترى في ذلك عيبا.
تنتمي حفيظة لمنطقة الصحراء حيث تسود معايير مختلفة للجسد، فالوزن الزائد للنساء ينظر اليه كقيمة مضافة، بينما يحدث العكس في مناطق أخرى،كما أن معايير أخرى من قبيل لون البشرة أو اللباس، طريقة المشي او الجلوس أو الأكل ذاتها تؤثر في النظرة الى الجسد”، ما يطرح تساؤلا لدى حفيظة هو الربط البديهي بين حديثنا عن الجسد وبين المرأة وكأن الرجل لا جسد له.كما تطرح حفيظة تساؤلات أخرى عما يمكن تسميته بالعنصرية التي يواجه بها الجسد المختلف من حيث اللون أو الوزن، لا زلنا نسمع عبارات عزي وعزية، غليظة بحال البقرة، ضعيفة بحال الزرافة او غيرها من عبارات تكشف تمثلاتنا الخفية عن الجسد”.
الحب هو ما يجب أن يحكم علاقتنا بالجسد، تقول زهراء جنات كوتش في التنمية الذاتية، المثير هو أن الأشخاص يتحدثون عن جسدهم كأنه شئ مفصول، غريب يقسو عليه بالملاحظات وعدم الرضا والاهتمام، بينما يجب أن نبني علاقة تصالح وانسجام مع أجسادنا لأنه طريقنا للتصالح مع الذات ككل” .
“السوشيل ميديا” و الجسد المشتهى “Trendy”
بعمر الستة والعشرين، خضعت لمياء للكثير من التدخلات التجميلية، ورغم انها كانت جميلة بشهادة المقربين، الا أنها ترغب في الحصول على جسد مثالي، فقد غيرت من شكل الشفاه والانف ، نحتت محيط الخصر، ومعه مؤخرة بارزة، أصبحت تشبه الى حد ما نموذج كيم كارديشيان، تتابع لمياء كل جديد يتعلق بالجمال، وتحرص على أن تكون على الموضة ولا تختلف عن النساء اللواتي تتابعهن على وسائل التواصل الاجتماعي.
مثلت وسائل التواصل الاجتماعي مدارا استثنائيا فيما يخص الجسد والصورة الذاتية، يوضح عبد الرحيم العطري : أستاذ علم الاجتماع ، بأن الصور أصبحت شاهد الحضور والغياب، يتم نشرها والاستعانة بالتطبيقات المتاحة، قصد ممارسة “التجميل الإلكتروني” عن طريق “الفلاتر”، للظهور بالشكل المشتهى. لا بأس أن نضيف “الملوّنات” و”المنحفات” أو “المسمنات” وباقي “المجملات” و “المضحكات” الإلكترونية إلى صورنا الأصلية، لنصنع “نسخاً مزيدة ومنقحة” أملاً في الإبهار والإمتاع.
“اللايكات” و”المشاهدات” ، نُعلن حسب العطري “عطشا” إلى الاعتراف، و”جوعا” أكبر على مستوى تأكيد الذات وتقديرها، وهو ما يفسرالعرض الذاتي بدرجة الهوس والنرجسية الرقمية.
للرجال أيضا الكثير من الاستيهامات فيما يخص الجسد النموذج، تخبرنا فاطمة أم لابن في العشرين “يمضي ابني ساعات طويلة في النادي الرياضي، ربما أكثر مما يمضيه في دراسته، يرتب برنامج أكله والمكملات الغذائية المختلفة، انه مسكون بالحصول على جسد مثل جسد رولاندو، الذي يجعل منه أيقونة لدى الشباب”.
يعود الاهتمام المتزايد بالجسد إلى نوع من وعي المرء وتطور اهتمامه بشكله، لكن المؤكد، بالنسبة لصفاء مرجان طبيبة جراحة الأسنان وتجميل الابتسامة ” أن ذلك يعود إلى تأثير الانفتاح على العالم ، فما يحدث هناك يصل الى هنا بنفس الوقت، وسمح التواصل الاجتماعي بمعرفة آخر التقنيات في كل المجالات ومنها الطب التجميلي وأصبح لدى المغاربة نوع من الوعي بصحة الأسنان وتجميلها، وصارت مفاهيم مثل الابتسامة الهوليودية، وتناسق الوجه مع الابتسامة وشكل الاسنان أمرا دارجا، عكس ما كان عليه قبل سنوات”.انتعاش مجال التجميل أو الطفرة التي يعرفها اهتمام المغاربة بالجسد، يربطه رشيد عديل طبيب الجراحة التجميلية والتقويم، بالتغيير الاقتصادي
“بعد أن كان قبل ما يناهز عشرين سنة في حدود عشرين مليار دولار ، ارتفع الناتج الداخلي الخام للمغرب الى أكثر من مائة مليار دولار.. هناك خلق للثروات لقد تغير المغرب كثيرا خلال العشرين سنة الأخيرة..حن نرى الماركات العالمية، السيارات الفارهة، الشقق الفخمة،..اٍن لها أصحابا يقول رشيد عديل المال يحرك السوق، والمغاربة بدأوا يربحون ماديا بسبب خلق مجالات جديدة للثروة ، بالتالي فلن يكون الطلب من فئة واحدة، هناك أشخاص يشتغلون بالقطاع العام أو الخاص هناك زوجات لمسؤولين أو موظفين، هناك نساء يتحركن داخل مجال الدعارة الراقية، هناك رجال يشتغلون بالشأن العام ويرغبون صورة معينة، ولذلك يقبلون على كل ما من شأنه منحهم الصورة المثالية”.
الجانب الاقتصادي لوحده غير كاف لتكتمل الصورة، بالنسبة لسعيد بنيس أستاذ السوسيولوجيا، اٍذ أن سعي الكثيرين للحصول على شكل مثالي نابع أيضا من تأثير الاٍعلام والصور المرجعية التي يحتفظ بها كل شخص.ورغم أن الاقبال على ذلك يحضر فيه الاختيار والاعتراف بالهوية الشخصية للفرد -مع خصوصية بعض الحالات-، فاٍنه كذلك يعكس نوعا من الاٍرادة المبطنة نحو الانتماء لفئة ما، من هنا يمكن القول اٍنهم محكومون يتمثلات نخبوية، يكرسها الاعلام، أي أن الشخص يريد أن يتميز عن باقي المجموعات من خلال إبراز صورة جديدة تتماهى مع ما هو مطلوب كمقاييس خاصة بالنسبة للنخبة التي تحظى بوضع امتيازي ولو رمزي.
صناعة جسد مثالي
من قال بأن كل العالم يتحتم عليه البقاء عند حدود خصر بمقاس 38 ؟ طرحت المفكرة فاطمة المرنيسي هذا السؤال في احدى المقالات التي تحدثت فيها عن تجربتها باحدى المراكز التجارية بنيويورك حيث لا تتوفر مقاسات أكبر للنساء اللواتي لا تستجيب أجسادهن لشروط الموضة، كان سؤال المرنيسي مدخلا لحديثها عما أسمته “الحريم الأوربي”، استعانت فاطمة بكتاب أسطورة الجمال le mythe de la beauté، للنسوية ناومي وولف Noami wolf، لتنتقد الكثير من اصور المعاصرة للجمال المثالي و الوزن الذي حددته النماذج العليا للموضة، والذي يستمر دائما في الابتعاد عن الوزن العام لفئة النساء العاديات، معتبرة بأن التمويه الذي تقوم به الاختيارات الجمالية عبرالقوانين الجسدية يؤثر على أهلية النساء للتباري من أجل السلطة.
من المؤكد ان الاستنتاجات التي وصلت اليها المرنيسي كانت تهدف للتوعية حول عدم الرهان على المظهر الفيزيائي للجسد، لكن ما قالته فاطمة كان قبل عصر السوشل ميديا، ولعلها، ان كانت بيننا اليوم تعيد طرح السؤال من يحدد النموذج؟.