التشهير بالجسد.. صراع ضد مجتمع لا يقبل الاختلاف
مغربيات : آسية البوطي
هل سبق و أن توقفت يومًا وفكرت في عدد المرات التي يُطلب فيها منك تغيير مظهرك؟ كم مرة وجدت نفسك محاصرا بكم من المجلات و المواقع التيتصادف فيها إعلانات لوصفات سحرية تجعلك تفقد عشر كيلوغرامات في “أسبوع واحد” أو كيف تبيض المناطق الداكنة لتحصل على بشرة نضرةو جسد “مثالي ” بدون “عيوب“؟…
في عالم ٍ أصبح فيه التركيز على الجسد طريقة للتسويق، و المثالية فيه تعني التخلص من العيوب الخارجية في الجسم. لا غرابة في سعي، ليسفقط المراهقين، بل حتى البالغين وراء دعايات المجلات التي تقدم نصائح عن كيفية “العناية” بأجسادنا دون معرفة أي شيء عنا، و لا عن مظهرنا.فغالبًا ما تشير الرسائل المشفرة في دعايات وسائل الإعلام أو حتى من بعضنا البعض إلى أننا يجب أن نتغير، وأن علينا أن نهتم بأن نبدو أنحفوأصغر و أسمر… وإذا لم نفعل ذلك ، فإننا معرضون لخطر أن نكون هدفًا لتعليقات و انتقادات الآخرين تجاه جسدنا.
كلمة “سمين” ليست شتيمة
استضاف رشيد العلالي في برنامجه “رشيد شو” الذي يبث على القناة الثانية الممثلة كريمة و ساط من أجل التحدث عن مسارها الفني واصداراتها الأخيرة، لكن عندما تم بث الحلقة على الهواء، تضمنت التعليقات على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك“ أسئلة ساخرة مهينة مثل : “كيف استطاعت الدخول إلى المصعد للوصول للأستوديو ؟” و “هل وجدتم حقا كرسيا يتسع لحجمها الكبير ذاك ؟” و …أسئلة تضمر كماً من السخرية و التنقيص.
من الواضح أنه حتى “كريمة وساط“لا يمكنها مناقشة عملها التلفزي في برنامج “رشيد شو” دون أن تُختصر في تعليقات بشأن حجم جسدها.حتى الفنان وغيره من المؤثرين في الحياة العامة ليسوا في منأى عن السخرية من مظهرهم الخارجي.
كثيرًا ما تستخدم المسلسلات الكوميدية أشخاصا من ذوي الوزن الزائد أو قصيري القامة، كأساس للعديد من النكات، بدل التركيز على مواهبهم الحقيقية، حيث جرت العادة أن الجسد السمين مقرون بسمات مثل الغباء ،السذاجة، الكسل، والبشاعة … و أن صاحبه يستحق الشفقة لا الحب و التقدير. ولسوء الحظ ، غالبًا ما تكون هذه النعوت هي نفسها التي تتبادر إلى ذهن الأشخاص البدينين حول أنفسهم، عندما يقفون أمام المرآة .
“لم أختر أن أكون بدينة ومريضة . يجب على الناس التوقف عن الكلام دون معرفة ما يمر به الشخص الآخر” قالت سارة التي تبلغ ثلاثة و عشرينعاما و هي تصف المواقف التي تعرضت فيها للسخرية بسبب جسدها، منذ أن كانت في الثانية عشر من عمرها، عندما نعتت بألقاب مستفزةوجارحة بسبب الوزر الزائد الذي اكتسبته جراء إصابتها بمرض الشَّرى .
” يسبب لي هذا المرض ( الشرى) احمرار شديدا وحكة في الجلد.” أردفت سارة مفسرة. “الجلوس بدون مكيف هواء و لو لمدة عشر دقائق يجعلبشرتي تصبح حمراء اللون بسبب الإهتياج. المنشطات هي الوحيدة التي تعطيني القليل من الراحة ، لكنها تكسبني الوزن “.
ووفقًا للكثيرين ، فإن الأشخاص البدينين ليسوا في الحقيقة أشخاصًا. بل هم “وحوش“. وغالبًا ما يتوقع الناس منهم أن يكرسوا كل طاقتهمووقتهم للتمرن و الدخول في الحميات الغذائية ليصبحوا “أجمل” أو ” أشخاصا طبيعيين“، ما أدى إلى ارتفاع نسبة المصابين بالإكتئاب الحاد والقلق و الخوف و حتى الإنتحار في صفوف هذه الفئة من الأشخاص .
و الحقيقة أن الأشخاص البدينين يعانون من الإقصاء حتى في مجال الأزياء و الألبسة الجاهزة، حيث تتوقف العديد من ماركات الأزياء عن صنعالملابس فوق مقاس XL ، أو تتوقف حتى بعض العلامات التجارية المختصة في صنع ملابس الحجم الكبير عن صنع الملابس التي تتجاوز مقاسXXXL، وهنا يطرح السؤال بحرقة كيف يمكن ألا يكون هذا هو الحال و العالم غير مستعد لاحتواء الأشخاص الذين يشغلون مساحة أكبر؟
قصيرة القامة لكن بكفاءة وعزيمة
تتذكر كريمة (28 مستخدمة بوحدة فندقية) كيف أنها في كل مرة كانت تجتاز امتحانات لمباريات بتفوق ملفت، لكنها ما إن تصل مرحلة اجتيازالامتحان الشفوي، حتى تخفق، ليس لضعف تكوينها و لكن بسبب قصر قامتها التي كانت دائما تقف عائقا في وجه قبولها في العديد من الوظائف، حتى ظنت في وقت من الأوقات انها لن تتمكن من الحصول على وظيفة.
تقول ل“مغربيات“ كان بعض المسؤولين يتصلون بي من أجل لقاء مباشر بعد اطلاعهم على سيرتي الذاتية و مؤهلاتي و يبدون حماسا كبيرا للتعرف علي، لكن ما أن أظهر أمامهم حتى ألمس برودة في التعامل، بل إن منهم من لم يتردد في إخباري بأنه من الصعب قبولي بسبب قصر قامتي و يسلمني أوراقي و يعتذر لي“. وتضيف كريمة “ في البداية كنت اشعر بالإحباط و التذمر، لكنني ما إن تمر لحظة رفضي، حتى أستجمع قواي و أواصل البحث عن وظيفة، إلى أن تم قبولي في العمل بوحدة فندقية، و أنا الآن مسؤولة عن الموارد البشرية، و أحظى باحترام كل العاملين معي، و أحاول دائما أن أطور نفسي عبر القراءة و الاطلاع على كل ما هو جديد“.
كن رجلاً !
كان مفهوم “صورة الجسد المثالية” محدودا عند النساء فقط، بسبب الصورة النمطية الجندرية التي كانت تقيس المرأة و تحدد قيمتها فقط فيمظهرها الخارجي ،منذ عقود مضت، والتي حاربتها النساء الآن بموجة قوية من “النسوية” والتي تندد بقيمة المرأة الاجتماعية التي لا يمكن أنتحدد بجانب واحد فقط منها ، مدافعات عن فكرة أن المرأة ليست جسدا فقط، بل هي كيان يتميز بنفس مميزات الرجال و يستحق نفس الاحترامالذي يحظون به. من ناحية أخرى، حركات قليلة مماثلة لأجل الرجال بدأت في الظهور لمحاربة مفهوم “الجسم الذكوري المثالي” الذي أصبح يعبثبشكل كبير بنفسية و ثقة الرجال.
لقرون ، كانت الأدوار الجندرية بين الجنسين تحيل إلى أن “الجمال الجسدي” مقصور فقط على النساء، لكن مع تغير تفكير معظم المجتمعات، أصبح استحسان الرجل الآن لا يقاس بشخصيته أو نجاحه فقط، بل خضع الرجال أيضًا لنفس الفحص و الانتقاء القائم على المظهر الخارجيالذي عانت منه النساء منذ عقود مضت.
” في مجتمعنا، بغض النظر على أن التشهير بأجساد الناس اقترب لأن يعتبر من صنع الطبيعة ، إلا أن انتقاد جسم أو مظهر الرجل لا يؤخذمأخذ الجدية، عكس موقف الناس تجاه التشهير بجسد بالمرأة ” قال محمد (21 عاما طالب بكلية الأدب بالسنة الثالثة( ل“مغربيات“ ” يدافعالنساء عن أنفسهن أمام مثل هذه المواقف لأنهن لسن خائفات من نظرة المجتمع إن عبرن عما يؤلمهن أو يسبب لهن عدم الإرتياح نفسيا. عكسالرجال، الذين ينتظر منهم أن يكونوا بدون إحساس و بدون مخاوف، فالذكر في مجتمعنا لا يجب أن يتأثر داخليا مهما كانت الظروف أو العوامل“بنبرة لا تخلو من سخرية، تحدث محمد و هو يعبر عن استيائه من المعيار المزدوج الذي يتبناه أفراد المجتمع العربي عموما و المغربي خصوصا،فيما يتعلق بالصحة النفسية و العقلية للذكور” كن رجلا ! يقولون“.
ليس من الغريب أن يشعر الرجال بعدم الثقة في شكلهم الخارجي أيضا، بالنظر إلى كيف أن معظم الصور في المجلات، ومواقع المواعدة، هيلشبان ذوي عضلات قوية لكونها مرسومة باليد، بشعرهم كثيف. لذا فإن أي رجل لا يتناسب مع نظرية “الجاذبية” السطحية هذه سيشعر بأنه ليسجيدًا بما يكفي.
الرجال الآن يشعرون بعدم الرضا ليس فقط عن عضلاتهم ، ولكن أيضًا عن كثافة شعرهم والتجاعيد التي ستظهر على وجوههم ودهون الجسموشكل الأسنان… ويُلقى اللوم دائما على الترويج الثقافي والتجاري الكبير لمعايير المظهر غير الواقعي و السطحي.
و من بين أحد الأمثلة الأكثر إثباتا لهذه النظرية، هو أنه حتى شركات الألعاب أضافت العضلات في الإصدارات المتتالية من الدمى على مر السنين،وهو كذلك الحال مع ألعاب الفيديو التى تحتوي شخصيات بشرية أو قريبة من الشكل البشري .
حلقة لا منتهية من الحكم و النقد
بالإضافة إلى التحديات المجتمعية التي يواجهها الأشخاص المختلفون ، هناك آراء أفراد العائلة حول المظهر و التي تشكل حاجزًا آخر ينضاف لنظرة المجتمع. حيث تتوارث قيمهم ومعتقداتهم عبر الأجيال، لتصبح مسألة المظهر أكثر من صراع في حلبة بينهم و بين الغرباء، بل عليهم أيضاادراج عائلاتهم و آرائهم –حسب تاريخهم و وجهة نظرهم المتوارثة حول ما يجعل منهم أشخاصا ذوي مظهر “جيد“- للائحة المتصارعين .
كذلك عندما يتعلق الأمر بالمواعدة أو الزواج ، فيمكن أن يؤثر الشعور بالخزي و الخجل من الجسد بشكل كبير على تجربة المرء في هذا الجزء منحياته، فقد يؤدي إلى تدني احترام الشخص لذاته، مما يؤثر مباشرة على نوع الشريك الذي سيختاره، وكيف يتوقع أن يُعامل من طرفه، و منه فيمكنأن ينتج على ذلك عائق كبير بين المرء والحب والتواصل.
و في خضم الصراع القائم بين الفرد والعالم، في مباراة واحد ضد 7 ملايير وجهة نظر؛ تغيير المرء لنفسه يبدو الحل الأنسب ماذا لو يستطيع أنيكون “أجمل أكثر” ،” أسمر أكثر“،“أبيض أكثر“، “أقوى“، “أنحف“، “أطول“… فربما سيشعر بالرضى. ومن الممكن أن يفعل (من ناحية ما)، ما يجعل هذه المعتقدات المغلوطة توهمه بأنه لو استطاع تحقيق وا حدة من الـ ” ماذا لو” (والتي غالبا ما تكون مستحيلة أو غير قابلة للتحقيق )فسيتغير كل شيء في حياته للأفضل.
و لسوء الحظ، فحتى عندما يحقق الشخص جميع أو جل الـ “ماذا لو” التي يسعى إليها، فإنه يجد نفسه داخل نفس الدائرة المغلقة من التساؤل والتوهان، عما إن كانت الأحاسيس التي يحس بها هي حقا أحاسيس رضى و هل حقا هذا هو المعنى الحقيقي للسعادة ، ليستنتج لاحقا أن انتقادالمجتمع لشكله الخارجي لن ينتهي أبدا، و أن آراء الناس حوله ستلاحقه ما حيا، فطريق الإجابة عن أسئلته الداخلية و وسيلة شفائه من الجروح والندوب التي خلفها صراعه مع العالم، هي التغير داخليا لا خارجيا.
مهما فعلت ستبقى “لست جيدا كفاية “
في هذا العالم الذي يتغير باستمرار و أصبح سطحيا أكثر، و بينما تغذينا الصور والمقالات ومقاطع الفيديو والمدونات المصورة ومدونات الفيديوباستمرار بملاحظات حول كيف يجب أن نظهر، من الصعب أن يحب المرء جسده بدون جهد، وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة من العمل للوصولإلى ذلك، وهذا بسبب العدد الكبير واللامتناهي من التحديات التي يجب عليه مواجهتها قبل أن يشعر بالتقبل والحب في النهاية لجسده،و قد تبدو تلك الأنواع من الملاحظات طبيعية جدًا لدرجة أنه لا يدرك الرسائل التي يتلقاها منها والتي يقنع نفسه بها، مؤمنا بطريقة غير مباشرة و بقوة، بأنهمهما حاول، فهو يبقى ليـس جيـدا كفــاية .
رأي المختص : هشام كنيش باحث في علم الاجتماع
هشام كنيش : نحتاج لثقافة وتربية مستنيرة قوامها التسامح وقبول الاختلاف
يرى هشام كنيش الباحث في علم الإجتماع أن عبارة التشهير بالأجساد غير واضحة عكس ما قد يبدو من الوهلة الأولى، وينبغي التعامل معها بنوع من الحذر المنهجي لأنها لا تكشف عن مضمونها ببساطة. لذلك، نعتقد بأن الأمر ينخرط ضمن إشكالية أوسع؛ ألا وهي طرق الاهتمام والتعامل مع الجسد في المجتمع.
ويضيف كنيش قائلا : بما أن الأمر يتعلق بالجسد، لا بد من الإشارة أولا إلى أن الجسد يختزن الخصائص والسمات الاجتماعية والثقافية والسياسية للمجتمع برمته. وكما يقول عالم الأنثروبولوجيا جورج بالانديي، في هذا السياق، إن الجسد يشكل المرجع الأول للفرد. فنحن نوجد من خلاله، وهو من يسمح لنا باقتحام العوالم الخارجية (الطبيعة، الأشياء وإقامة العلاقات مع باقي الأفراد..) ويتوسط كل حركاتنا، ويمكن القول بدون مبالغة أو مجازفة بأن تاريخ الحضارات هو تاريخ أجسادها. الجسد كذلك متعدد ولا يمكن اختزاله في تصور أحادي ضيق، فكما يقول إدواردو جوليانو في إحدى قصائده:
“تقول الكنيسة: الجسد خطيئة.
يقول العلم: الجسد آلة.
تقول الإعلانات: الجسد مشروع تجاري.
يقول الجسد: أنا مهرجان“.
ويؤكد أن العالم المعاصر جعل من الجسد كاشفه، حيث إن “تقنيات الجسد” تطورت في إطار زمن يمتاز باكتساح ثقافة الاستهلاك، حيث لم يعد الاهتمام يقتصر على حماية الصحة ومكافحة الأمراض والهشاشة، بل السعي نحو “الرفاه” والبحث عن “الاكتمال” والجسد المثالي باستخدام موارد أتاحها التقدم الطبي والعلمي وتطور الإعلام بكل أشكاله…
ثم يوضح أنه في إطار التمهيد دائما ينبغي التمييز بين أمرين أسياسيين هما: أن يكون الجسد محور اهتمام الأفراد والجماعات داخل مجتمع معين من جهة أولى، وأن يتم الإمعان في الجسد وجعله موضوعا للسخرية والتشهير من جهة أخرى. فإن كان يبدو بأن الجسد في كلتا الحالتين مراقبا وخاضعا للضبط من قبل المجتمع، بل أكثر من ذلك محببا ومفضلا حيث يتم الرضا بشكل الجسد في جماعة معينة فيما يشبه الاتفاق الجماعي (لنا في تفضيل “المرأة السمينة” بالأقاليم الصحراوية للبلاد مثالا ساطعا على هذا الأمر)، فإن الأمر في المستوى الثاني يتجاوز المراقبة إلى ممارسة العنف بكل أشكاله المادي والرمزي.
من جهة أخرى، يكشف كنيش أن الاهتمام بالجسد يختلف من مجتمع لآخر ومن ثقافة لأخرى، ذلك أننا قد نجد تفضيل جسد معين بقوام معين في مجتمع ما والعكس بالعكس.
وبهذا، يمكن القول بأن الجسد واحد، في حين أن التعامل مع الجسد يهم وضعيات متعددة، يمكن حصرها وتركيزها في شكلين بارزين (انسجاما مع أهداف هذه المساهمة): يتمثل الشكل الأول في الرغبة في تعديل الجسد وإدخال تحسينات عليه وفق قوالب الجسد المعياري كما يصور ويروج له اجتماعيا، ويكمن الشكل الثاني في شكل الجسد غير المرغوب فيه اجتماعيا ولا يستجيب للمعايير السائدة. وفي كلتا الحالتين يكون شكل الجسد ومظهره مثار اهتمام من قبل الأفراد والمجتمع. والمثير، هاهنا، أن هذا الاهتمام قد يتحول، في بعض الأحيان، إلى عنف يخلف العديد من الآثار والتداعيات على المستوى النفسي والاجتماعي…
و بالنسبة للباحث في علم الاجتماع فإن موضوع التشهير بالجسد يتخذ شكلين أساسيين :
الشكل الأول:
نلاحظ بأن هناك تصاعدا مكثفا لاهتمام الأفراد بالجسد، وذلك بفعل التأثير الذي تمارسه الصحف والمجلات والتلفزيون، واليوم منصات التواصل الاجتماعي التي تعج بمواد عن صورة الجسد والجراحة التجميلية وكيفية جعل الجسد يبدو فتيا ومثيرا وفاتنا، إلى جانب الوصلات التجارية والصناعة الخاصة بإنقاص الوزن والحفاظ على الرشاقة، وكتب التنمية الذاتية وإرشادات التجميل وملاحق الحميات وخطط التمرينات، بينما تتنافس السلع الاستهلاكية على محاولة جعل أجساد الناس تبدو جديرة بالثقة وقادرة على إثارة متع جنسية، وهي توفر برامج لتحسين البشرة وتقوية العضلات بحيث تبعث برسائل عن الصحة عبر جعل المرء يبدو معافى وفتيا وقويا. وقد خلق كل هذا بروز نوع من الثقافة الجماهيرية نجم عنها حركة فردية غير مسبوقة للاهتمام بالجسد. فقد أصبح عدد يتزايد من الناس أكثر اهتماما بصحة وشكل مظهر أجسادهم بوصفها تعبيرا عن هوياتهم الفردية. وكما يلاحظ، فإن هذه الظاهرة باتت تتضح بشكل خاص عند مختلف شرائح المجتمع ولم تعد تقتصر على طبقات معينة..
إن هذا النزوع الفردي للاهتمام بالجسد بات واضحا في المجتمع المغربي اليوم. كما أن الأمر يشمل الإناث والذكور ولا يقتصر على جنس واحد دون الآخر. فنحن نرى مثلا كيف أن صالونات التجميل التي كانت تقدم خدمات للنساء حتى عهد قريب، كيف صار يقبل عليها الذكور أيضا من مختلف الأعمار عن طريق إزالة “النقاط السوداء” (les points noirs) والتدليك، وضع الكريمات لترطيب البشرة، الاهتمام بقصات الشعر ومظهر اللباس. زاد الاهتمام والعناية بالجسد لدى النساء أيضا في المجتمع المغربي من خلال الإقبال على عمليات التجميل واستهلاك مستحضرات التجميل (حبوب دردك مثلا). تشكل، في الواقع، مشاريع الصحة والعمليات الجراحية وكمال الأجسام أمثلة جيدة للتأكيد على كون الجسد يمثل مشروعا فرديا، ذلك أن زخرفة للجسد والنقش عليه وتغييره وإجراء تعديلات عليه ينبني على تصور انعكاسي ينأى عن النماذج التقليدية “لأجساد مقبولة اجتماعيا“..
الشكل الثاني:
يهم هذا الشكل الثاني التشهير بالأجساد. ويشير التشهير بالجسد إلى حجم اللوم والسخرية الذي يتحمله شخص ما من قبل شخص آخر أو مجموعة من الأفراد (غالبًا في شكل كلمات قاسية وعنيفة)، بسبب مظهر جسده، والذي يمكن الحكم عليه بأنه سمين جدًا، أو نحيف جدًا، أو عضلي جدًا، إلخ. ولا يقتصر على التشهير بالدهون، أو التشهير بالنحافة، أو التشهير بالطول، أو التشهير بالشعر (أو عدم وجوده)، أو لون الشعر، أو شكل الجسم، أو العضلات (أو عدم وجودها)، والتشهير بالمظهر (ملامح الوجه)، وبمعناه الواسع قد يشمل التشهير بالوشم والثقب أو الأمراض التي تترك علامة جسدية مثل الصدفية (التوحيمة) أو “الثعلبة” في الشعر (التونية)…
في دراسة لمجموعة من الأفلام الخاصة بالأطفال والكتب المتعلقة برسائل حول أهمية المظهر، كانت الوسائط المستهدفة للأطفال مشبعة بشكل كبير بالرسائل التي تؤكد على الجاذبية كجزء مهم من العلاقات والتفاعل بين الأشخاص. من بين الأفلام المستخدمة في الدراسة، احتوى فيلمان من فئة ديزني على أكبر عدد من الرسائل حول الجمال الشخصي. أوضحت هذه الدراسة أيضًا أن 64٪ من مقاطع الفيديو التي تمت دراستها صورت الشخصيات البدينة على أنها غير جذابة، وشريرة، وقاسية، وغير ودية…
تشير الدراسات أيضا إلى أن بعض أشكال السخرية من الجسد لها أصول وجذور قديمة في الثقافة الشعبية. ويمكن أن نستحضر بعض الصفات الدالة هنا: “سفوت العواشر” (وهو توصيف للشخص النحيف هزيل البنية وضعيفها)؛ “الغليظ“/”الغليظة” (نجد بعض الأمثلة في الثقافة الشعبية التي تنعث الشخص السمين بالمريض ”وا الغليظ باش مريض؟ بالشحمة والقديد“؛ “المسموم“/”المسمومة“؛“المبروص“/”المبروصة“؛ “عزي“/”عزية“…إلخ. إنها جزء من الصفات التي يتحول بموجبها شكل الجسد إلى شتيمة، وتسمح للأفراد باقتحام كيانات خاصة وحميمية لأفراد آخرين. ويشار إلى أشكال التشهير هاته تختلف حسب الجنس (الذكور والإناث) وحسب الفئة العمرية للأفراد (المراهقون/الشباب/الراشدون..)…
وعن أسباب التشهير بالأجساد في المجتمع، يقول كنيش إن هذا السؤال يحتمل جوابين. يهم الأول البحث في أسباب انتشار ظاهرة التشهير بالجسد، ويهم الثاني أسباب إقدام الأفراد على مثل هذه السلوكات والممارسات. وللأسف لا يتسع المجال للوقوف عند هذه الأسباب بالتفصيل والتدقيق اللازمين. لكن بالرغم من ذلك، يمكن القول بأن الظاهرة ليس حديثة، بل قديمة قدم الإنسانية. فكثيرا ما كان المرء يتعرض للنبذ والنعوث الجارحة بسبب شكل جسده، وهو الأمر الذي يعني أن الترتيبات والقوالب التي وضعها وصنعها المجتمع في تنصنيف الأفراد وترسيخ بعض الصور النمطية والتمثلات المعيارية عبر ميكانيزمات التربية والتنشئة الاجتماعية عن الجسد لم يتم التخلص منها بعد، هذا علاوة على بعض الأسباب النفسية والاجتماعية التي تدفع بعض الأفراد إلى نهج سلوك السخرية والعنف من أفراد آخرين بسبب شكل جسدهم. ومن جهتها، قد ساهمت الثورة التكنولوجية وما سيتبعها من تحولات هائلة لعل من أبرها تشكل العالم الرقمي في إعطاء الأمر دفعة قوية بالشكل الذي سيؤدي إلى إفراط في مثل هذه الممارسات والسلوكات العنيفة بسبب فرط في الرموز والصور والدلالات التي يحفل بها هذا العالم. ولعله الأمر الذي ساهم في ارتفاع ظاهرة التشهير بالأجساد عبر منصات التواصل الاجتماعي كما تشير إلى ذلك العديد من الدراسات والتقارير. وكما هو معلوم، إن العالم الرقمي مليء بصور تنميطية عن الجسد المثالي، كما يصور ويروج له من قبل أيقونات الموضة والجمال ومشاهير العالم في التمثيل والرياضة.
نحن، إذن، إزاء مسألتين؛ الأولى تتصل بالعناية بالجسد وإجراء تعديلات عليه (للإشارة قد تكون هذه التعديلات أكثر جذرية كما هو الحال لدى العابرين جندريا)، بينما تتصل الثانية بالتشهير بمظهر الجسد الحالي للشخص الذي قد يكون سمين جدا أو نحيف جدا وما إلى ذلك.وللمسألتين تكلفة ذاتية ونفسية واجتماعي كبيرة ومتفاوتة حسب الجنس، والفئة العمرية، وحسب نوع الجسد كذلك لأن حدة ممارسة التشهير تختلف من جسد لآخر.
هكذا، نجد مجموعة من الآثار والتداعيات مثل: إنهاك الذات وإرهاقها وهو الأمر الذي قد ينجم سلوكات خطيرة لا يمكن توقعها؛ اضطرابات في الأكل والتغذية؛ القلق والاكتئاب والعزلة؛ لشعور بنوع من الغربة وعيش نوع من الأنوميا واللامعيارية داخل المجتمع؛ تفاقم العنف بكل أنواعه وأشكاله، الوصم الاجتماعي والتعرض لكل أشكال الإقصاء الاجتماعي، هناك من يحمل لقبا يستمر معه طيلة حياته، بل أكثر من ذلك قد يصبح لقبا عائليا (“المعيود“، “الرقيق“، “دوبل طيط“، “المسموم” أو “المسمومة“؛ “الشاذ“؛ “العاهرة“…).
هذا فيما يخص الفرد الذي يتعرض إلى مثل هذا السلوكات من قبل الأفراد والجماعات، لكن هناك تداعيات أخرى أكثر شدة ووطأة تهم الاستيلاب التي يتعرض له الأفراد جراء شغفهم وبحثهم عن “الجسد المثالي” الذي تروجه منصات التواصل الاجتماعي التي تعرض لمجموعة من مشاهير وأيقونات العالم التي يتعين على الأفراد استساخ أشكالهم. لذلك، تحدث عدد من الباحثين عن كون هذه المنصات بقدر ما هي ضرورية ويصعب الاستغناء عنها، فهي تسهم أيضا، وبقوة، في تعرية الإنسان واستيلابه (الحديث مثلا عن الإنسان العاري l’homme nu حسب توصيف كل من مارك دوجين وكرسيتوف لابي).
أضف إلى ذلك أن إشاعة المعرفة بمثل هذه التطورات بشكل كثيف في العالم الرقمي فمن المرجح أن الحرمان الذاتي الذي يعانيه من تعوزهم الموارد والقدرات التي تمكن من التحكم في أجسادهم والعناية بها سوف يزداد ويتفاقم بامتلاكهم تلك المعرفة، فضلا عن أولئك الأفراد الذين يكتشفون بأن أجسادهم قد غدت بطرق مختلفة خارج نطاق السيطرة..
وباختصار، إن الإقبال على تعديل شكل الجسد والعيش من أجل الجسد قد يسبب إنهاكا لصاحبه، وضغطا كبيرا على الجسد، فضلا عن تدخل مجموعات واسعة من المجتمع على الخط لممارسة العنف على الشخص الذي أقبل على تعديل جسده كيفما كان هذا التعديل من البسيط إلى الأكثر تعقيدا (ولنا في الفنانة دنيا باطمة مثالا دالا وحملة التشهير الواسعة التي تعرضت لها جراء إجرائها لعملية تجميلية)
وعلى سبيل الاستخلاص، يمكن القول إن الجسد سيظل مجال إبهام مستمر بحكم الشكوك التي ستساورنا ونحن نعتقد أن تقدمنا في فهمه..ذلك بفعل القدرات المتزايدة والإمكانيات المتنامية في درجة تحكمنا وقدرتنا على تغيير الجسد (نقل الأعضاء وزرعها مثال ساطع في هذا النطاق). لذلك، يقول أنتوني غيدنز مثلا: “في زمن الشك هذا، تتخذ الدراية بماهية الأجساد تدريجيا صيغة ترجيحات وفرضيات: مزاعم قد تكون صحيحة، لكنها قابلة من حيث المبدأ للتعديل، وقد نتخلى عنها كلية في وقت ما“..
من جهة أخرى، إن إشكاليات بالجسد والممارسات الجديدة المتصلة بها تنبئ بتشكل ظواهر ناشئة في المجتمع تستحق، في الواقع، أن تكون موضوع دراسات وأبحاث معمقة، خصوصا في إطار العلوم الاجتماعية والعلوم الطبية والتجميلية بالاعتماد على مقاربات جديدة تشجع تعدد التخصصات وتلاقح العلوم…
ويختتم الباحث قوله بأنه لا توجد، بطبيعة الحال، وصفة سحرية لحل مثل هذه الظواهر المعقدة والمركبة والتي يصعب التعامل معها بنوع من التسرع. إلا أنه برغم ذلك يبقى أن لمجمل الوسائط الاجتماعية (الأسرة والمدرسة الديمقراطيتان كما تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي فرانسوا ديبي، الإعلام العمومي ومنصات التواصل الاجتماعي..) دور كبير في هذا المضمار، لا سيما في بناء ثقافة وتربية مستنيرة لمجموع الأفراد والمواطنين قوامها التسامح وقبول الاختلاف في مستوياته المتعددة…