الأمكنة.. نوستالجيا مؤرقة بقلم سامية الصيباري
سامية الصيباري
الأمكنة.. نوستالجيا مؤرقة
عَلى مرّ العصُور شَكّلتِ المُدُن جزْءاً مُهِمّا منَ الهُوِيّة الذَاتيّة للانسَان ،إذ اسْتطَاعَ مِنْ خِلاَلِهَا أَنْ يُشَيّدَ مَشْهَدَهُ التّخْييلِي ،وَيفْتَح المَجَازَ مُتَخَطّياً الحُدُودَ الوَهْمِيّة مِلْءَ البَصَر،مُشرَعا عَلَى عَوَالِمَ نَفْسِيّة يَسْكُنُهَا الهَاجِسُ فَاتِحاً قَوْسَ البِدَايَة المُشْرِقَة نَحْوَ الفِكْر وَالجَمَال، مِثْلَمَا أَسّست المَدِينَة الأُولَى قِيَمهَا الفُضْلَى، لَكِنّ مُدُنَ العَصْر الحَدِيث انْفَصَلَتْ عَنْ هَدَفهَا الأَسْمَى وَانْزَاحَتْ عَنْ مَفْهُومِ الأَنْسَنَة، فَسَادَ التَوَحُّش وانْهَزَمَ الانْسَانُ المُعَاصِرُ أمَامَ مَكَائِد الأَنْظِمَة، فَضَاعَ بَيْنَ تَضَادّ وَآخَرَ حَيْث أصْبَحَتِ الأمْكِنَة جُرْحاً نَازِفاً وَنُوسْتَالْجْيَا مُؤَرِّقَة يَصْعُبُ الفِكَاكَ مِنْهَا.
فَالمَرْءُ لَيْسَ بِمَقْدِرَتِه ِاخْتِيَار مَكَان الوِلاَدَة لَكِنَّهُ يَسْتَطِيعُ التَّأَقْلُمَ بِشَكْلٍ بَارِعٍ، فَقَد ْجِئْتُ مِنْ مَدِينَة صَغِيرَة يُحِيط بِهَا البَحْرُ مِنْ كُلِّ جَانِب وَيَفِيض،مَدِينَة مِنْ عَبَقِ الفِينِيق وَالتّارِيخ العَرِيق بَوَّابَة افْرِيقْيَا وَمَعْبَرَ أوروُبّا، نَافِدَة الثَّقَافَات المُتَعَدِّدَة وَالأُصُولُ المُتَفَرِّقَة نَسِيجٌ مُتَكَامِلٌ مِنَ التَّرَابُطِ المُدْهِش، كَانَتْ مُلَقَّبَة بِجَوْهَرَة الشَّمَال ثُمَّ مَا لَبِثَ أنِ انْفَرَطَ العِقْدُ وَسَقَطَتْ وَحِيدَة مَعَ بَرِيقهَا الأخّاد فِي جَوْفِ الإِهْمَال تُصَارِعُ الضَّرَبَات وَالأَيْدِي النَّاهِبَة .
تُصِيبُنِي العَرَائِشُ بِحَالَةٍ مِنَ الخَذَرِ وَالسَّكِينَة وَالطّمَأْنِينَة المُكْتًسَبَة، رغْمَ فَرَارِي مِنْهَا كُنْتُ أَظنُّ أَنِّي سَأنْجُو مِنْ لَوْعَتِهَا وَمِنْ شَدِّهَا المُتَوَاصِل لِأَقْدَامِيَ الهَارِبَة ، لَكِنَّنِي الْتَفَتُّ مَرَّةً لِلْوَرَاء فَدَمَعَ قَلْبِي.
كُنْتُ وَمَازِلْتُ ابْنَة بَارَّة لِمَدِينَة أرْمَلَة هَجَرَهَا الجَمِيع وَتُرِكَتْ وَحِيدَة تَنْزِفُ بِثَبَاتٍ قُبَالَةَ الأطْلَسِي، تَحْرُسُ المَنَافِدَ وَمَعَابِرَ المِينَاء وَتعَب البَحَّارَة المُنْكَسِرينَ علَى المَرَاكِبِ الخَرْقاء، وَهُمْ يَرْقُصُونَ عَلَى مَعْزُوفَة فْلاَمِنْكُو حَزِينَة بِرُؤُوسٍ مُشْرَئِبَّة نَحْوَ السَّمَاء، وَيَتَسَاءَلونَ عَنْ مَعْنَى الزُّرْقة المَخْتُومَة عَلَى الأفْوَاه وَيَتَمَاهَوْنَ بِخَيَالاَتِهِم المَجْرُوحَة عَلَى صَفْحَة المَاء . وَحْدَهَا المُدُن البَحْرِيَّة التي لاَ تَمْنَحُ سِرّهَا لِلْجَمِيع، بَلْ تُوَزّعُهُ لِلْمُخْتاَرِينَ بِعِنَايَة ٍفَائِقَةٍ وَتَقِيسُ مَدَى إخْلاَصَك َفِي حِمَايَتِهَا بِأذْرُع ٍصَلْبَة، هِيَ الأمْكِنَة الّتِي يَفُوح ُمِنْهَا عَبَق الألْفَة وَالسِّحْر الغَرِيب وَأن ّثَمّةَ شَيْء يُحَرِّضُكَ عَلَى الاِنْصِيَاع بِكُلّ طَوَاعِيَة .
لَمْ أسْتَطِعْ التّحَرُرَ مِنْ ظِل ّالمَدِينَة اّلذِي ظَلّ مُرَافِقاً لِي كَحاَرِسٍ أَمِين، فَالفَوْضَى الشعُورِيّة الّتِي تَخْلقهَا مُدُن السّوَاحِل كَفِيلَة بِأنْ تُرَوّضَ العَاطِفَة عَلى الاِنْتِباَه لِتفَاصِيل تَبْدُو عَادِيّة فِي ظَاهِرها، لَكِنّ فِي دَوَاخِلِ الأشْيَاء العَادِيّة فِتْنَة مَخْفِيّة تُغْرِي بِالانْجِرَاف نَحْوَ شَرَك اللّغَة، لِتُصْبِحَ اللّحْظَة كَأيّ شَيْءٍ جَمِيلٍ نُغْمِضُ أعْينُنَا فِي حُضُورِهِ كَيْ لاَ يَغِيب.
تُؤلِمُنِي المَدِينَة الّتِي أَنْتَمِي إلَيْهَا ،عُزْلَتُهَا المُفْتَعَلَة ،لَحْظَتهَا الآنِيَة المُوجِعَة ،دُرُوبُهَا المُوغِلَة فِي الحَنِين ،وَسُكُونُهَا الّذِي يُشْبِهُ سُكُونَ المَقاَبِر.تَعْصِفُ بِيَ الذّكْرَيَات عَلَى مُخْتَلَف ألوَانهَا إذ ْلاَ أعْرِفُ كُنْه َنَفْسِي إلاّ وَهِيَ حَاضِرَة فِي، فَقَدْ تَشَكّلَتْ شَخْصِيَتِي فِيهَا وَكَانَتْ هِيَ الحَاضِنَة لِنُصُوصِيَ الأولَى الّتِي وُلِدِتْ نَتِيجَة الشّعُور المُفْرَط بِفَرَادَتِهَا المُقَدّسَة، وَاخْتِلاَفهَا المَهِيب ،حَيْث تَفَتّقتْ أزَاهِير كِتاَبَاتِي عَلَى أجْرَاف بَالْكُوأتْلاَنْتِيكُو، فِي إغْمَاضَة ِالعَيْنِ الأولَى رَأيْتُ مَا لَمْ يَرَهُ الحَالِم فَأسْلَمْتُ الّروحَ لِمَشِيئَةِ البَوْحِ وَلَمْ أكْتَمِل بَعْد.
إنَّ مَا يَجْعَلُ لِلكَلِمَة سُلطَة التَقَوّل ،هُوَ قَبَسٌ مِنْ رُوح ِقاَئِلها، هُوَ صِدْق ُالشُّعُور الحَاضِر فِي الْمَدِينَة أوِ الْمَنْفَى ،مَشَاهِدٌ وَاقِعِيّة مِنَ الْفِتْنَة وَالْكَمَال وَ سِحْر الصّْمْت.
فِي هَذا الْمَكاَن بِالذَّات انْجَرَفْتُ نَحْوَ الْحُزْن وَالتِّيه، وَكلّمَا عُدْتُ إلَيْهَا أدْخلُها كَمُكْتَشِفٍ زَارَهَا لِأوّل مَرَّة وَشَعَرَ بِالدَّهْشَة، وَذَاكَ الشُّعُور الّذِيتُخلِفُه المُدُن السَاكِنَة وَالمُتَوَقّف زَمَنهاَ نَحْوَ عَقْرَب مَائِل إلَى الخَلف. فَحَدَاثَة المُدُن تَشْوِيه لرُوح ِالأصْل وَنزوع الإنْساَن عَن ِالفِطْرَة، وَانفِصالِهعنْ خَلْق فرَصَ إنْصَاتٍ حَقِيقِيّةٍ لِنَبْضِ المَكَان. فَأيْنَمَا يَذْهَبُ الإنْسَان فَإنَهُ يَبْنِي وَاقِعَه ُالحَالِي مِنْ جُذُور الْمَدِينَة اللأُم لِأَنَّهَا النّبْع، وَلِأنّ رُوحَهُ مُسْتَقاَةٌ مِنْ دُرُوبِهَا وَأزِقَتِّهَا وَتَفَاصِيلهَا الْعَمِيقَة ،فَمَدِينَة التُّفَاحَات الذّهَبِيّة وَحَداَئِق الْهِسْبِيِريدِيس مَلاَذ لِلأرْوَاح التّائِهَة الّتِي تَبْحَث عَنْ كَيْنونَتهاَ، لِلْمُرْهَفِينَ الّذِينَ سَقَطُوا فِي مَتَاهَة السُّؤَال فَطوَقّتْهُم الْمَدِينَة بِحِصْنهَا الْمَنِيع الْمُمْتَد عَلَى أطْرَاف البَحْر فِي صِفَة الْعُظَمَاء.
فَهَلْ بِاسْتِطَاعَة المُدُن أنْ تَخِيطَ جِرَاحَهاَ، وَتُوقِفَ نَزْفَ الأُغْنِيَات الحَارِقَة، بَيْنَمَا العَابِثُون َالجُدُد يَخْتَفُونَ مِنَ الوَاجِهَة وَتَفُكّ حِصَار العُزْلَة القَائِمَة؟ !!.وَحْدَهُمُ الشُّعَرَاء مَجْبُولُونَ علَى الشّعُور بِالْمَدِينَة كَجُزْءٍ حَقِيقِي مِن كَيَانِهِم غَيْر المنفصل عَنْ وَحْدَة المَكَان وَخُصُوصِيّته، وَجَعْل النّهَايَة مَفْتُوحَة عَلَى احْتِمَالاَتٍ عِدّة .
أعدتها للنشر : فوزية التدري