مارية الزويني.. يسارية قادمة من زاوية سيدي الزوين (3)

مغربيات

إلى جانب وداد و لطيفة و النكية و فاطنة و خديجة، ذاقت مارية الزويني تجربة الاعتقال السياسي بدرب مولاي الشريف أواخر السبعينيات (سنة 1977). خلال ستة أشهر قضتها داخل القبو المظلم حملت اسم “عبد المنعم” قسرا، لأن الجلادين أرادوا إذلالها إلى جانب رفيقاتها فاختاروا لهن أسماء ذكورية. كيف تتجرأ النساء على خوض غمار السياسة، هؤلاء بالنسبة للجلاد لسن نساء، إنهن ذكور في عباءة نساء. 

كانت مارية تضع “عصابة” حول عينيها طيلة فترة الاعتقال بدرب مولاي الشريف، تنام بممر ضيق إلى جانب رفيقاتها. لم يكن مسموح لهن بالكلام أو رؤية بعضهن البعض. ستة أشهر من القهر و الجوع و انعدام الكرامة الإنسانية عاشتها مارية إلى جانب رفيقاتها، قبل أن يتم نقلهن إضافة إلى أزيد من مائة معتقل سياسي آخرين إلى سجن سيدي سعيد بمكناس،  هناك ستلتقي مارية لأول مرة بأفراد أسرتها الذين قدموا من مراكش لزيارتها بعد أن كانوا قد فقدوا الأمل في رؤيتها مرة أخرى مع شقيقها المعتقل بنفس السجن. 

في هذه السلسلة  تحكي المعتقلة السياسية السابقة مارية الزويني عن هذه التجربة القاسية التي لم تزدها إلا صمودا و إيمانا بأن مشروع مغرب ديمقراطي تسوده العدالة الاجتماعية و يعيش فيه المواطنون سواسية ليس مستحيلا. 

عندما تم اقتياد مارية إلى الطابق تحت أرضي بكوميسارية “جامع الفنا”، لمحت فتاة لا تعرفها و عرفت من ملامحها أنها لاتشبه باقي المعتقلات، فتقدمت نحوها و سألتها “نقدر نعرف علاش انت هنا؟” أجابتها الفتاة ” اعتقلوني اليوم و جابوني هنا…”. ثم سألتها مارية من جديد ” اشنو سميتك”، فردت المعتقلة “اسمي وداد”، هناك عرفت مارية أن الأمر يتعلق بإحدى النشيطات في الحقل الطلابي، لأنها كانت تعرفها دون أن يلتقيا يوما. طبعا تلك كانت هي وداد البواب رفيقتها التي ستلازمها لسنة و ثمانية أشهر بين معتقلي درب مولاي الشريف و سجن سيدي سعيد بمكناس. إنها وداد البواب واحدة من النساء اللواتي اعتقلن برفقة مارية و نساء أخريات، و منذ ذلك الحين لم تفترق الاثنتان، حيث جمعهما الاعتقال، ثم بعد ذلك العمل الجمعوي و الحقوقي و الدفاع عن الحقوق الإنسانية للنساء بالجمعية الديمقراطية لنساء المغرب.

تقول مارية : “كانت ودود تتابع دراستها بالسنة الثانية أو الثالثة بشعبة الكيمياء عندما تم اعتقالها بينما كانت تقضي عطلتها بأحد المنتجعات السياحية بضواحي مراكش، أخبرتني بأن عزيز (زوجي) قد تم اعتقاله برفقة عبد الحق (زوجها) و آخرين. عزيز لم يكن معروفا بنشاط سياسي، لكنه اعتقل لأنه ساعد بعض الرفاق على التخفي عن عيون الأمن، ووفر لهم البيت الذي اختبؤا فيه هربا منهم. 

تحكي وداد لرفيقتها مارية أنهم قاموا باستنطاقها، و قد أخبرتهم أنها تدرس بشعبة “PC”، (أي الفيزياء و الكيماء) فاعتقدوا أنها تقصد انضمامها للحزب الشيوعي (parti communiste)، فضحكت الإثنتان ضحكا يشبه البكاء لأنهما كانات تدركان جيدا أن الأسوء ينتظرهما معا و أنهما ذاهبتان إلى المجهول المخيف. 

تقول مارية إن وداد عرفت ذلك عندما أخبر المحققون عبد الحق الذي سيصبح زوجها فيما بعد “هاهي  وداد قد اعترفت بأنها منضمة للحزب الشيوعي”!! 

قضوا جميعهم تلك الليلة في كوميسارية جامع الفنا، و “في الصباح اصطحبوا وداد مع بقية الأصدقاء تقول مارية، لكن وداد ظنت أنهم سيخلون سبيلهم، فطلبت منهم أن يتفقدوا مارية التي، يبدو أنهم أغفلوا اصطحابها، لكن المفاجأة كانت أنهم يقتادونهم جميعا إلى درب مولاي الشريف.

تتذكر مارية كل تلك التفاصيل مع صديقتها وداد التي ظلت تذكرها بما وقع و تقول لها بنوع من الدعابة “أنا من تسبب في اعتقالك ذكرتهم بعد ان نسوك” ثم تضحك الاثنتان لأنهما كانتا تعرفان ألا شيء يغفل أو ينسى في تلك الفترة الصعبة. فقد كان كل شيء محسوب و مدروس. 

في الطريق إلى الدار البيضاء توقفوا في بنجرير و تناولوا وجبة الفطور ثم استأنفوا الطريق. تقول مارية “كان رجال الأمن لطفاء معنا. تعاطفهم ربما كان نابعا مما لمسوه من براءة فينا رغم التهم الثقيلة التي كانت في مخيلة  و في انتظارنا”. 

عند مدخل الدار البيضاء طلب من مارية و وداد أن يضعا عصابة على عينيهما، أما الرجال فأجبروا على وضعها طيلة الطريق. “لم نكن نعرف حيا اسمه درب مولاي  الشريف. أخبرونا أننا في الدار البيضاء، لكن عيوننا كانت مغمضة و لم نكن نعرف إلى أين يصحبوننا. عند ولوجنا البناية  سمعت أحدهم يسعل بشكل غريب، كأن سعاله فيه نوع من الإلحاح. في البداية لم أتعرف على صاحب السعال، الذي سأعرفه فيما بعد، عندما تعودنا على العصابة و أصبحنا نتقن النظر من تحتها دون أن ينكشف أمرنا”. 

للحظات تملك مارية رعب، حيث بدا لها سعال الرجل كأنه خروف يذبح، انتابها خوف شديد وفكرت في لحظة أنها لن تخرج من ذلك القبو على قيد الحياة. أما الرجال فبالإضافة إلى العصابة حول العينين كانوا مصفدي اليدين. 

لم يكن بحوزة مارية و أصدقائها أي شيء. لا ملابس و لا حتى بطاقة تعريف، باستثناء مبلغ 300 درهم، من حسن حظها أن جدتها أرسلته مع خالها الذي كان يعمل موظفا بالمحكمة عندما كانت محتجزة بكوميسارية جامع الفنا، و لعل حدس الجدة كان في محله، حيث كانت مارية تأخذ من المبلغ، الذي طلب منها أن تسلمه مع حامل النقود عند دخولها للمعتقل، كلما دعت الحاجة إلى ذلك لشراء دواء أو غيره. 

أثناء التحقيق كانت مارية تجيب عن الأسئلة دون أن تنظر في وجه المحققين. كان المحقق يطرح أسئلة من قبيل “ما اسمك” و “ماذا تفعلين؟” و غيرها من الأسئلة المعتادة دون أن يشمل التحقيق الانتماء إلى أي تنظيم يساري أو نشاط سياسي. 

بعد انتهاء التحقيق الذي كانت تخضع  له كل معتقلة على حدة، اقتيدت مارية رفقة صديقاتها اللواتي لم تكن تعرف عنهن شيئا باستثناء وداد، إلى ممر ضيق اصطفت عبى جنباته الأسرة الباردة التي ستحتضن أجسادهن المنهكة طيلة فترة الاحتجاز.   جلست مارية على حافة سريرها دون أن ترى ما كان حولها. كانت الأسرة الأخرى مخصصة للمعتقلات لطيفة اجبابدي و خديجة البخاري و فاطنة البيه و ووداد البواب و النكية التي التحقت بهن فيما بعد. 

 

الطفلة مارية الزويني رفقة عائلتها

مارية الزويني

About Post Author