للاخالة آخر فارسات “الحضرة” بمراكش
“للا خالة” وجه من أوجه التراث الروحاني الشفاهي المهدد بالاندثاربمراكش. فبعد أن كانت واحدة من أكثر المطلوبات لدى العائلات المراكشية لإحياء طقوس الحضرة في مناسبات دينية و احتفالية، اختفت هذه الطقوس وحلت محلها مظاهر احتفالية أخرى، حتى لم يعد ل“الحضرة” مكانتها السابقة. هو قلق يعيشه العديد من الغيورين على الثقافة الشفاهية بالمدينة، من بينهم مها المادي مديرة مؤسسة “دار بلارج“لرعاية الثقافة و التراث التي استعادت هذا الطقس الروحاني عبر خلق ورشة “الحضرة“، لكي تتيح لنساء مولعات بهذه الطقوس الروحانية حفظ ما تختزنه ذاكرة للا خالة آخر رائدات الحضرة المراكشية من تراث.
بخطوات متثاقلة شقت “للا خالة” بعكاز تسند عليه سنواتها الثمانين، لنفسها طريقا وسط حشود الحاضرات اللواتي تجمعن بفضاء “دار بلارج” ينتظرنها. يتطلعن إليها بنظرات الإعجاب و الاحترام، وكلهن شوق و ولع لكي يرددن بعدها ما تيسر من الأذكار و الأدعية التي التزمت آخر رائدات “الحضرة” بمراكش بتلقينها لهن، حتى لا يضيع واحد من أهم أوجه التراث الشفاهي الروحاني للمدينة.
موعد مع للاخالة
مساء كل خميس تجتمع نسوة قادهن ولعهن بالحضرة في انتظار أن تطل للا خالة التي لا تخلف الموعد الذي تحتضنه ورشة “الأمهات الموهوبات” بفضاء “دار بلارج“، و تجود عليهن بما تختزنه ذاكرتها من كنوز تراث شفاهي نسائي في طريقه إلى الإندثار. منذ البداية كان سقف التحدي عاليا بالنسبة لمديرة مؤسسة “دار بلارج” لرعاية الثقافة و التراث مها المادي، إذ كيف السبيل إلى حماية هذه الثروة التي تحتفظ بها “للا خالة“، و إقناعها بالفكرة، و هي التي تخلت، بعد أن خناتها الصحة، عن إحياء طقس لم يعد له مكانا في احتفالات المراكشيين منذ زمن بعيد. هكذا بدأت مساعي مديرة مؤسسة “دار بلارج” باستقطاب سيدة الحضرة للا خالة، و إقناعها بتلقين ما تختزنه ذاكرتها لنساء الورشة.
مها المادي برفقة للاخالة
وسط النساء، تتخذ للا خالة مكانها، بينما تتكلف إحداهن بإخراج “الطبيلة” التي تضعها بعناية أمامها فوق منديل أخضر مطرز أنيق. تمسك للا خالة بالقضيبين الصغيرين بإحكام و تبدأ في النقر على الآلة التي لا ترضى بسواها بديلة، هذه الآلة التي رافقتها لما يزيد عن خمسة عقود عقود أو أكثر وهي تصدح بصوت سلب منه الزمن قوته لكنه ظل ممسكا بالمقام ” الله الله الله يا مولاي الله أمولانا. نبدا باسم الله يفك خبالي سيدي و يفك خبالي و لا يخلي ضيم عَلَي. و يلا نعيد نشكي شي هبالي و حبابي ما عرفو ما بي..”. تردد النساء بعدها إلى أن ينخرطن بتخشع في الأذكار التي تبدأ بإيقاع هادئ مع الضرب على الدفوف (تسمى التنكيرة) بعد أن تضبط للا خالة إيقاع الذكر، ثم تبدأ الضربات في تناغم مع الإيقاع الذي تفرضه للا خالة ( التسريحة و التنكيرة)، حتى تتصاعد و تعلو الأصوات لتدخل النساء في حالة وجدانية تنتهي بالزغاريد و الصلاة على النبي المصطفى الأمين، فتنكمش النساء بعد أن يدخلن في حالة وجدانية صوفية تحررهن بالكامل. تضع للا خالة القضيبين وتخرج منديلا صغيرا أحمر اللون. تمسح حبات العرق المتناثرة على وجهها وتبتسم في وجوه النساء فيَفْهمن أنها راضية على أدائهن كل الرضى.
“ما بيدي ما ندير هذا مكتوبي أ مولايا، و نصبر حتى يفرج الله علي، ما بيدي ما ندير هذا مكتوبي أ مولايا، هذي كلمة سمعتها سلكت راسي يا مولايا، ألي جاتو ساعتو يفوت هذي كلمة سمعتها سلكت راسي يا مولايا..” تنتاب المرددات حالة من الوجد و الخشوع يظل مسيطرا عليهن حتى بعد الانتهاء من الذكرة.
و يسمى الضرب على دفين (2 بنادر) التسريحة، أما الضرب على دف واحد (بندير واحد) فيسمى التنكيرة بالإضافة إلى الطر (الرق)، أما إذا صاحبته التعريجة فإن ذلك يصبح عيساويا، أما الضرب على الطبيلة فيتطلب تركيزا عاليا و أذنا موسيقية لأنه هو من يقود “الذكرة” من أولها إلى آخرها، وصاحبته هي المقدمة التي تقود الفرقة كلها و تضبط الإيقاع. و تكمن الصعوبة في أن العديد من الحضارات يصعب عليهن الجمع بين الذكر و النقر على الطبيلة، لأن الإثنين يتطلبان تركيزا عاليا، وهو ما يميز المقدمة عن سواها، و التي يقولون عنها “عسري مسخوط مو يدو ما هي أخت فمو” في إشارة إلى ذاك الذي لا يستطيع أن يضرب الدف و يردد في نفس الوقت مع الحفاظ على الإيقاع.
من رحم الحضرة
بحي القنارية عاشت للا خالة ببيت يعج بالمادحين و عيساوة، فزوجها كان واحدا من المولعين بالأمداح و الأذكار النبوية، حيث يواضب على إحياء الطقوس الروحانية و الذكر ببيته، فيما كانت زوجته تجلس خلف الباب و تسترق السمع لما تصدح به حناجر المداحين و المذكرين و عيساوة، إذ لم يكن مسموحا للنساء بالظهور وسط المدعوين، إلى أن حفظت الكثير مما كانت تسمعه، و أصبحت تردد كل ما تحفظه شفاهيا. لم تكن هذه أولى المحطات التي عاشت فيها للا خالة أجواء الذكر و المديح، بل إنها نشات في كنف سيدة كانت تناديها “مي للا“، امرأة ربتها بعد أن توفيت أمها وهي بعد صغيرة. هذه السيدة كانت واحدة من المسكونات بطقوس الحضرة، ومنها تشربت للا خالة فنون الصنعة، حيث أصبحت تصحبها مع بعض الحضارات الأخريات خلال احتفالات عودة الحجاج أو الطهارة (ختان) و العقيقة و حتى أفراح الزواج. يحكي محمد ابن للا خالة الوحيد الذي لم ترزق بغيره و قد لازمها طيلة حياته كظلها، أنه وهو صغير كان يملأ دفترا عن آخره يدون فيه العرابين(المبالغ التي تتقاضاها من الزبناء لتأكيد دعوتها لإحياء المناسبات الدينية وغيرها). لا يستطيع أن يعيش بدونها و لا هي يمكنها العيش بدونه.التحم الاثنان ببعضهما البعض، حتى بعد أن تزوج و أنجب أطفالا ظلت للا خالة ملازمة له، يصطحبها كل خميس لدار بلارج، وهو موعد التزمت به مع الأمهات الموهوبات ولا تخلفه حتى عندما يشتد عليها المرض.
كان حضور للا خالة يقتصر في البداية على إحياء المناسبات بدعوة من أصحابها، إلى أن أرسل يوما في طلبها، لأحياء الحضرة بزاوية مولاي ابراهيم بحي القصور، بعد أن تخلفت “المْقَدْمَة” (رئيسة الفرقة) بسبب سفرها المفاجئ. وافقت للا خالة على أن تتقدم فرقة الحضارات، وبعد أن سمعها الحاضرون بزاوية مولاي ابراهيم افتتنوا بطريقتها في النقر على “الطبيلة” و إجادتها في ترديد الأذكار، وبعد أن انتهت من فقرتها، وجدت نفسها محاصرة بطلبهم في أن تصبح “مقدمة“ للفرقة، وزاد تورطها بعد أن قرؤوا عليها الفاتحة لتعين “مقدمة“على الحَضارات. أمام إلحاحهم وافقت للا خالة لكنها اشترطت أن يقتصر الأمر على إحياء الحضرة كل جمعة بزاوية مولاي ابراهيم فقط.
تقول للا خالة “اللهم صلي وسلم على النبي، كانت زاوية مولاي ابراهيم تمتلئ عن آخرها بجحافل من الناس يأتون من كل حدب و صوب لحضور طقوس الحضرة كل يوم جمعة، وكنت لا أخلف الموعد مهما وقع“. بعد أن ذاع صيتها كواحدة من أفضل حفاظات الذكر و النقر على الطبيلة، أصبحت للا خالة الأكثر طلبا لدى العائلات المراكشية التي لا يستقيم لها الفرح و الاحتفال بدون فرقة الحضارات التي كانت مقدمة عليهن.. تتذكر المجد الذي طبع مسيرتها فتقول “كنت أتقاضى عرابين لشهر أو يزيد، و كان الزبناء ينتظرون دورهم طويلا لكي أحل ضيفة عليهم“.ثم تضيف “في سن صغير دخلت إلى عالم الحضرة و الجذبة، و تشربت طقوسها، أعطتني الكثير و وهبتها حياتي و صحتي“.
ذاكرة متقدة
“تعلمت الذكر على عمات زوجي اللواتي كان يطلق عليهن لقب الشريفات حضارات “الشيكي” بزاوية الحضر. كن لا يخرجن لإحياء مناسبة إلا وهن في كامل زينتهن و أناقتهن“
تنتاب للا خالة حالة من الفرح وهي تستعيد ذكرياتها الأولى مع طقوس الحضرة، حيث يصبح للحديث طعم خاص و تتحمس وهي توضح كيف أن لكل ذكر من الأذكار إيقاعه الخاص، يرافقه ضرب على الطبيلة مناسب له، ورغم أنها سجلت بعضا منه بالإذاعة الجهوية لمراكش إلا أنه لازال منه الكثير لا يجد له مكانا إلا في ذاكرة لازالت متقدة رغم زحف السنين.
خلال حفل أقيم بمدينة تيزنيت
طقس روحاني
منذ انخرطن في ورشة “الحضرة“، قررت العديد من النساء اللواتي قادهن ولعهن بهذا الطقس الروحاني للتردد على “دار بلارج“ و النهل مما جادت به ذاكرة للا خالة، التي يترقبن حضورها كل يوم خميس حتى يحفظن منها الأذكار و الأدعية. تقول زهرة الخيراوي، واحدة من المستفيدات “لم يسبق لي من قبل أن عرفت الحضرة، لكنني ما إن اكتشفتها و سمعت للا خالة حتى أصبحت مسكونة بهذا الموعد الأسبوعي الذي أنتظره بكل شغف، وقد أشعرني ذلك براحة نفسية لم أعرفها من قبل“
أما أمينة بويبرين فتؤكد أنها ليست محبة فقط للحضرة إنما هي عاشقة للمديح و السماع و الطرب الأندلسي وحتى فن الملحون، وكل ما يتعلق بذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد شبهت ذلك برياضة اليوغا التي تحرر الجسد و تسمو بالروح.
بالنسبة لرقية فقد جاءت للحضرة لتقتفي أثر واحدة من الحضارات اللواتي تولعت بهن منذ الصغر وهي للا خالة. و أبدت أسفها لكونها لم تهتم من قبل حتى تحفظ منها، ولما توفيت أمها وكانت في فرقة للحضارات، أرادت رقية أن تتدارك ما فاتها. تقول “أعرف للا خالة منذ كنت صغيرة حيث كانت أمي ضمن فرقتها، لكني لم أحفظ عنها، وكنت أعشق “للا خالة“ و أتبعها أينما ذهبت للاستمتاع بطريقتها في الذكر، وكم مرة تركت أمي بزاوية الحلفاوي بباب دكالة و انضممت للا خالة بزاوية أخرى غير بعيدة، لكني لم أتمكن من الانضمام إليهن في مرحلة مبكرة بسبب الخجل“.
ترى خديجة أن الحضرة هي ذكر الله و لا يمكن إلا أن يحبها كل من سمعها و انصهر في أجوائها الروحانية التي تحرر الجسد من التوتر و ضغوطات الحياة، فيخيل إليك أنك تسبح في مكان بعيد عن هذا الواقع، مؤكدة أنها استفادت من العديد من الورشات، كالمسرح و ممارسة اليوغا و اللغات و الخياطة و فنون القتال وغيرها من المهارات التي تعلمنها بفضل ما منحته لهن مؤسسة “دار بلارج“.
تضيف رشيدة الادريسي وهي من أقدم المستفيدات من ورشات “الأمهات الموهوبات“ أن ورشة الحضرة جاءت لتضفي على كل ما استفادت منه النساء طقسا خاصا، حيث إنها تحمل النساء إلى عوالم روحانية و صوفية تنسيهن كل متاعب الحياة و ضغوطها، كما أنها ستتيح حفظهذا التراث من الاندثار.
للاخالة برفقة الأمهات الموهوبات