قراءة نقدية في كتاب “صيف الوصل بالأندلس – سِفر الدهشة” للكاتب عزيز شدادي
“صيف الوصل بالأندلس – سِفر الدهشة” للكاتب عزيز شدادي : من القراءة الجمالية إلى القراءة الثقافية
بقلم: ذ. محمد جوهر (باحث مغربي)
-
على سبــــيل التقــديـــــــــــــم:
أدب الرحلة أو فن الرحلة، ذاك الانتقال والسفر اللذان يغويان من جرب السفر وغوايته، وخبر المكان وجماليته حيث يتم الاحتفاء بالمكان وفق زمان محدد يُسجّل في أرشيف المذكرات، من هنا يعد فن الرحلة أدبا قائم الذات ضمن الأنواع الأدبية؛ باعتباره نوعا سرديا إذا ما نظرنا إلى الإنتاج الرحلي وكتب الرحلات بصفة أعم كمصادر مهمة في بعدها التاريخي والجغرافي والاجتماعي والإنساني وغيرها، مع استحضار الجانب الذاتي على اعتبار أن الذات محور التجربة في هذا المقام، حيث تتغيا اكتشاف عوالم الأمكنة ومعانقة عناصر الجمال فيها، والنبش في الذاكرة لتحقيق غايات ومقصديات أخرى استدعاها السفر.
من هذا المنطلق تحضر الأندلس بمرجعيتها التاريخية والأدبية والجغرافية بشكل صارخ على مستوى العنوان الذي وسم به الكاتب المبدع عزيزالشدادي كتابه “صيف الوصل بالأندلس، سفر الدهشة“،i ليحيي الوصل واللقاء بتاريخ تليد وحضارة مجيدة امتدت لثمانية قرون.
ولعل الكتاب موضوع القراءة في هذه الورقة لصاحبه عزيز الشدادي مثال على ما ذلك، واختيارنا لمفهوم القراءة يعزى للعلاقة الجدلية بين اللغة والثقافة، فكل ثقافة تحمل لغة وكل لغة تمثل ثقافة، إنها – أي اللغة– أداة التفكير، وفي استبطان الأنساق الثقافية المتخفية في لباس الجمالية والمتوارية عبر اللغة، قد نتفق مع رولان بارت حين قال: إن اللغة ليست بريئة. بناء على ذلك تأتي هذه الورقة للنظر في كتاب: “صيف الوصل بالأندلس سِفر الدهشة” من زاوية كونه نصا رِحْليّا وجماليا وثقافيا في الآن ذاته، من خلال الوقوف عند العنوان كمعطى جمالي وثقافي والــمكان بين سلطة الدهشة الجمالية والمضمر الثقافي ثم الذات من فعل الكاتبة والبوح إلى سؤال الهوية“. ونظرا لمركزية القارئ في عملية استكناه المخبوء واستنطاق المسكوت عنه؛ ارتأينا وضع توطئة عن ما قبل القراءة الثقافية عنوانها: “من سلطة النص والمؤلف إلى سلطة القارئ “حتى نبين بروز سلطة القارئ في القراءة الثقافية بعد أن كانت السلطة في مركزية النص والمؤلف.i
-
من سلطة النص والمؤلف إلى سلطة القارئ:
تميزت الدراسات الأدبية منذ زمن طويل في مقاربتها للظاهرة الأدبية والإبداع عامة بالتركيزعلى المؤلف،مانحة له السلطة وبالتالي اعتبرته الموج لفعل التفسير والتأويل والقراءة، وبتطور الحركة النقدية والدراسات الأدبية، يتم التوجه صوب النص والاهتمام به ليشكل مركز الثقل ومن تم يكتسب سلطته، أمام موت المؤلف وبروز سلطة النص أوالكتابة، خاصة مع الدراسات البنيوية (النقد البنيوي والسميولوجي) حيث الاهتمام باللغة أو النسق اللغوي المنتج للنص، والاحتفاء بالنص داخليا، رافضة وملغية سياقاته الخارجية سواء أكانت تاريخية أو اجتماعية أو نفسية..، ومهملة أهم عنصر فعال في عملية التواصل الأدبي وهو القارئ، من هنا أثيرت إشكالية القارئ لتظهر نظرية التلقي في ألمانيا في أواسط الستينات سنة م1966، في إطار مدرسة كونسطانس على يدي كل من فولفغانغ أيزر وهانزر وبيرت ياوس، معلنة ميلاد القارئ في مقابل موت المؤلف، هنا نجد عبد العزيز حمودة يقول: “لقد أصبح المشهد النقدي مستعدا لنقلة جديدة وكان تاريخ النقد في القرن العشرين مجموعة من النقلات المتتابعة، النقلة الجديدة كانت إلى القارئ“.ii
وقد كان لنظريات ومدارس أدبية التأثيرفي نظرية أوجمالية التلقي،منها الشكلانية الروسية وإسهامات رومان جاكوبسون، وتأتي التفكيكية مع رائدها جاك دريدا، لتنظر إلى النص بكونه منفتحا على مجموعة من الدلالات والمعاني بمعنى أنه ليس نصا منغلقا، لا يمتلك معنى ثابتا ولامركزية أو مرجعية ثابتة، وفي المعادلة القائمة بين النص والقارئ / الذات والموضوع، تأتي الظاهراتية أوالفينومينولوجيا كفلسفة لها امتداد في الحقل الأدبي ورأت المتلقي أنه ركن أساسي في إدراك العمل الأدبي،عبرعملية تفاعلية يتحرك ضمنها القارئ لتتحصل القراءة، فالنص ليس كاملا إلا بوجود ذات مدركة واعية له، تملأ الفراغات والبياضات وتكشف المسكوت عنه..من هذا المنطلق تأتي جهود “هوسرل ورومان انغاردن“، وبكون العمل الأدبي رسالة اجتماعية يقترب المنهج السوسيولوجي من نظرية التلقي، حيث يهتم بالقارئ بكونه متلقّ للأدب وهو جزء من المجتمع ..
لا غروفي كون اللغة وعاء للجمالي والمعرفي الثقافي أيضا، وعندما صار التلقي جزءا لايتجزأ من عملية التأويل، وأن العلاقة بين القراءة والتأويل علاقة جدلية، تأتي الهرمنيوطيقا أوالتأويل ونستحضرأحد رموزها: “هانز جورج غادامير“.. ومن ثم يكون النص/ العمل الأدبي منفتحا على قراءات متجددة خاضعة للسؤال والشرح التفسير والتأويل؛ قراءة جديدة معنى جديد؛ تفكيك ثم بناء…
النص الأدبي والإبداعي بصفة عامة يتشكل لغويا من تعابير وتركيبات، بها يتحقق الزخرف والسبك فتحدد معالمه الجمالية، ومن تم أدبيته، وهذا ما حددته الدراسات الشكلانية التي احتفت بأدبية النص خاصة عند رومان جاكوبسون، الذي قال بأن موضوع العمل الأدبي ليس الأدب بل الأدبية، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا. إضافة إلى الجانب اللغوي يحضر الجانبان الثقافي والمعرفي في تشكيل النص، على اعتبارأن النص في ظل النقلات النوعية التي شهدها النقد الأدبي، خاصة ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، نخص بالذكر هنا الدراسات الثقافية والنقد الثقافي الذي ينظر للنص بكونه علامة ثقافية، بعدما رأت نزوع المناهج الشكلية في التعامل مع النص في حدوده الشكلية، وعدم الدخول في المسائل الخارجية وأسيقته المختلفة، وهذا يعد قصورا في إتمام عملية القراءة، ولو أن النص مشكل من اللغة واللغة وعاء الفكر وهي كائن حي، والفرد كائن ثقافي منتج للثقافة، وثقافته تتجلى في مظاهر من أهمها اللغة، منها ما هو معلن ومنها ما هو مضمر، وأن العنصر الجمالي يخفي أنساقا ثقافية وفق سياقات مختلفة. هنا نستحضر مساهمة مدرسة بيرمنغهام ببريطانيا ومدرسة فرانكفورت الألمانية، دون إغفال دور الناقد الأمريكي “فينيست ليتش” حيث أطلق مصطلح النقد الثقافي في منتصف القرن العشرين، ومنطلق ذلك تجلى في اعتبار العمل الأدبي ظاهرة ثقافية مفتوحة على التحليل وفق وجهات نظرة متعددة استدعتها سياقات مختلفة، وفي الساحة النقدية العربية نجد الناقد السعودي عبد الله الغذامي الذي يرجع له الفضل في تكريس هذا النمط من المناهج النقدية من خلال كتابه الموسوم ب” النقد الثقافي قراءة في الانساق الثقافية العربية“حيث نجده يقول:” لقد أدى النقد الأدبي دورا مهما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي، مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي، وظلت العيوب النسقية تتنامى متوسلة بالجمالي، والشعري والبلاغي، حتى صارت نموذجا سلوكيا يتحكم فينا ذهنيا وعمليا“.iii
إن كانت اللغة ليست بريئة بمفهوم رولان بارت، فيجوز لنا القول بأنه ليست هناك قراءة بريئة؛ على اعتبار أن القراءة تستند إلى فرضيات والقارئ وهو يغوص إلى جوف النص، يسائل الغائب فيه ويستـنطقه ويملأ البياضات، وفق استراتيجيات القراءة الثقافية التي من خلالها يسعى القارئ إلى القبض على الكائن ومساءلة الممكن في لاوعي المؤلف، فحين يتواشج الجمالي والثقافي تصبح القراءة مضاعفة في التذوق وتفجير مكامن الخطاب ورهاناته، ومقصدية الكتابة في سفر البوح انطلاقا من الدهشة المتحصلة من غواية المكان.
-
العنوان مُعطى جمالي وثقافي:
لطالما اهتم الدارسون بالعنوان كعتبة من عتبات القراءة ونصا موازيا، على اعتبار أن العنوان يشكل صلة الوصل بين القارئ والنص، ومن حيث كونه فضاء لغويا يحتل الريادة في الإعلان المبكر عن افتراضات للقراءة المسبقة لمحتوى النص، ويفتح للقارئ باب التفسير والتأويل، على اعتبار أنه يشكل جزءا من“مجموعة من الدلائل اللغوية يمكن أن توضع على رأس النص لأجل تعيينه، وتحديد مضمونه العام ولأجل جذب الجمهور المستهدف“.iv
من هذا المنطلق اتخذ العنوان الرئيس للكتاب موضوع القراءة “صيف الوصل بالأندلس، سِفر الدهشة” إطارا جماليا وثقـافيا، تمثل الجانب الجمالي من حيث تركيبــته اللغــوية والشعرية، ليتجــلى بعده الاستيـطيقي بشكــل صارخ، ومقاربته كنص مستقل يمثل بنيية لغوية في بعدها الصرفي والتركيبي والصوتي والدلالي، هي عناصر تساهم في تشكيل بنية الخطاب، وتحليلها يوصل إلى فهم المقصد من الكلام ودلالة الخطاب بشكل عام، من هنا نجد العنوان قد جاء مركبا تركيبا اسميا تكررت فيه بعض الحروف المهموسة (الصاد والسين والفاء) التي تفيد الثبوت والاستقرار والتحقق، قد يكون لهذا ارتباط بالنفسية الثابتة المستقرة التي تتغيا نشدان متعة وغاية ذاتية استدعاها السَّفر، فتماهت الحروف المهموسة مع دلالة الثبوت والاستقرار التي تحققت في اسمية الجملتين المكونتين للعنوان، فتكون الذات مستقرة نفسيا حيال متعة الاندهاش والإعجاب والاستسلام لغواية المكان. ويتحدد المعطى الثقافي للنص في كونه شكل تعالقا نصيا، وإن شئنا قلنا: امتدادا تناصيا مع مطلع قصيدة لسان الدين بن الخطيب “جادك الغيث إذا الغيث همى……يا زمان الوصل بالأندلس“، واستحضار لسان الدين بن الخطيب على مستوى العنونة إنما آتٍ من قصدية، ومن مظاهر هذه القصدية؛ تذوق الكاتب لفن الموشحات والطرب الأندلسي بشكل عام تجلى ذلك بشكل صارخ على مستوى العناوين التي اختارها عزيز الشدادي ليؤثت بها فضاء المتن من بدايته لنهايته، ومن جهة أخرى لما عرف عن لسان الدين بن الخطيب من ثــقل ثقافي وسياسي، فهو المؤرخ والفيلسوف والطبيب والسياسي والمترجم ..واستدعاء فن الموشحات الذي صبغ العنوان الرئيس والعناوين الفرعية التي أثت بها الكاتب متنه، إنما هو استدعاء للزمن المنكسر على مجد غابر صار جرحا منغرسا في الوجدان فلم يندمل، وأبت الذاكرة العربية والإسلامية نسيانه، من هنا تجديد الوصل بالأندلس دليل على الوعي الجمعي بهذا الماضي العتيد الذي يحمل معه تحسر دائم على الفردوس المفقود، فكانت الرحلة إلى الأندلس والتجوال بين المدن الأندلسية، إنما هو سفر تواشج فيه الذاتي بالموضوعي، لاستحضار الهوية العربية والإسلامية، تاريخ مجيد تلـــيد، تاريخ حضاري وثقافي إنساني تأبى الذاكرة نسيانه، فعزيز الشدادي نفسه يقول: “ولما كان الفردوس مبتغى المؤمنين والحكمة ضالتهم والعقل وسيلتهم، شعرت أن زيارة الأندلس فرض عين على من أدرك أن هدا البلد هو المنبع الذي انتشرت منه المعرفة الإنسانية إلى باقي أوربا في العصور الوسطى، ثم إن مجرد النطق بكلمة »الأندلس» يدعوك لأن تتمتع برنينها ويفرض عليك أن تعشقها بدون علمها قبل رؤية مفاتن الفكر والجمال فيها“.v
إذا تأملنا العنوان الفرعي “سِفر الدهشة” نجده يختـزن في بينتة اللغوية والتركيبية دلالتين: أولاهما تصريحية، أبانت عنها كلمة “سِفر” فهو كتاب ضم مشاهادات الرحالة وتنقلاته، وأتى بكلمة ثانية وهي “الدهشة“، ليجعل المتلقي متلهفا لمحتويات الكتاب، فالدهشة لها امتداد في الوجود الإنساني، من جذورها الفلسفية إلى الانغراس في الحقل الأدبي، ليتم التماهي بين الذات الممارسة لفعل الوصف والموجودات من أمكنة وأشخاص ومشاعر… مع سلطة المكان، متخذا الواصف الرحاّلة اللغة الواصفة المغلفة بجمالية ماتحة من الدائرة البلاغية والمعجم الصوفي،وسيلة لنقل الصور المرسومة لغويا، فتستسلم العين لغواية المكان فتصير الغواية عدوى يصيب بها السارد القارئ، وليستكنه هذا الأخير بإدراكاته ما احتواه الجمال من أغراض في النص الغائب دلالة ثانية متخفية وراء جمالية اللغة، حيث إضفاء هالة من القداسة الروحية على المكان وما احتواه بأشخاصه وعاداته وثقافته…، حيث يتماهى الذاتي مع الموضوعي فيحدث التلاقح الوجداني الانفعالي، أمور تجعل المقارنة في لا وعي الكاتب تحضر فيكون نقدا مضمرا متخفيا لواقع مخالف للواقع الذي فرضه سياق الرحلة؛ لنجد الكاتب يقول: “هنا، على مطل سان نيكولاس، تصبح عاشقا رغما عنك. تصبح صوفيا، ناسكا، صرفت عمرك في العشق وما ذهب هدرا. والقلب الذي ينبض بالعشق لا يعرف الذبول، ينتعش بالحب والرحمة، فتتوحد مع قول الصوفي جلال الدين الرومي: «إذا فاتك أن تكون محبوبا، فلا يفوتك أن تكون محبا».vi
الافتتان بالمكان إلى حد الهوس جعلت الكاتب يعيش الصوفية فيه، إنه الاستسلام لسلطة الدهشة الكامنة في جوف المكان، فيحصل هذا التواشج “العاطفي/ الروحي بالأمكنة لتتم مساءلة المضمر: هل الذات وجدت ضالتها في المكان الذي أوقد جذوة العشق ربما كانت قد خبت لفترة ما ..؟ فتحقق الدهشة والاحتفاء بالمكان؛ ومحاولة القبض على المتعة الجمالية واستهلاكها بنهم تحصل للسارد/الواصف النشوة مثلها كمثل نشوة الخمرة عند الصوفي؛ حيث الذوبان في حضرة المكان فنقول: إن عزيز الشدادي وجد ضالته حين تمكّن المكان بجاذبيتة من أن يجعله صريعا للعشق المباح في ضيافة سحر الفضاء الأندلسي..
-
الــمكان بين سلطة الدهشة الجمالية والمضمر الثقافي:
شكل المكان المحدّدُ في الأندلس وبحمولته التاريخية والسياسية والحضارية، إطارا مرجعيا ثقافيا وجماليا، فكانت الذاكرة الفردية للمؤلف كأنها تتحدث بالنيابة عن الــوعي الجمعي لتضعنا في حضرة الفـردوس؛ وجعلــنا نستحضر معه المجد التليد عبر استنطاق الأمكنة التي يزورها الكاتب الرحالة؛ ومع كل وقفة تأمل يطلق العنان لمخيلته لتعانق عناصر الجمال، وقد أفلح الكاتب من حيث امتلاكه لناصية اللغة من اتخاذ الوصف آلية اشتغال السرد بشكل فادح التميز والتأنق، فجعل الأمكنة ترتدي ثوب البطل على اعتبار المكان العام “الأندلس” بين الماضي والحاضر حاضن للأحداث، والكاتب مرتِّب ومؤثت لبيت السرد بجماليات اللغة الواصفة، بها ربط الوصل وجدانيا بهويته، فكان الانحياز الشديد للمكان عبر إظهار جمالياته؛ والاحتفاء بجزئياته وتفاصيله من منطلق الدهشة؛ تحقيقا لإشباع نفسي ذاتي فرضه سياق الرحلة، والكاتب بقرطبة نجده يقول: “أقنع نفسي جاهدا أنه لا وقت لأن أردد مثل اعتماد وهي مازحة مع المعتمد لتخفف عنه ذل الأسْر: «لقد هُنَّا هُـنا «فقد أتيت إلى هذا “الهنا” والأندلس العربية والإسلامية أمامي وفي وجداني، وظلت نفسي ترقب منها الحكمة وتترصد مفاتن الجمال محتفظا بتلك المسافة الضرورية لرؤية الأشياء بوضوح“.vii
تتغيا الذات سرقة لحظات المتعة فتصاب بغواية المكان، فتأبى الذاكرة نسيان الانكسارات والخيبات التاريخية، سلطة المكان تكون أقوى فتحضر الألفة ويذوب الاشتياق في ثنايا الكلمات ويجيش الوجدان، ليحضن الذاكرة في بيت السرد، ويتخذ من الغابر التليد نقدا لحاضر يذكر أهله بالماضي العتيد، والكاتب بقرطبة نجده يقول: “في الطريق إلى الفندق، وجدت عمال النظافة يغسلون شوارع قرطبة في الثانية صباحا كأنهم يطهرون تاريخهم وأسوار مدينتهم التي كانت شاهدة على المذابح والمجازر التي عاشتها. رحل الراحلون وترجل الراكبون وبقيت قرطبة تورث أسوارها لمن تشاء وتعرض حسنها الحزين لكل زائر. قرطبة مدينة تلون الحزن بالجمال مثل امرأة فاتنة تتشح بخمار شفاف حزنا على غياب أبنائها بعد أن تفرقت بهم السبل“.viii
جرح لم يندمل، وبكاء وتحسّر جوانيٌّ تستشعره في هذا الشاهد، وأيضا عندما تجد الكاتب وهو يستمع إلى مقطع موسيقي أندلسي:
“طال اغترابي ولاخلٌّ يؤنسني***ولا الزمان بمن أهوى يوافني
وقد بُليتُ بقلب لا يساعدني *** نفس الملوك وحالة المساكين
كلما استمعت إلى هذه الموسيقى، إلا وانتابني ذلك الشعور بالانتشاء الذي يختلط بالحسرة، فلا تعرف أي شعور تظهره: أ ترقص وترفرف طربا أم تستكين حزنا؟“.ix
المكان بنية أساسية في تشكيل فضاء السرد فهو ليس فقط المحيط التي تتحرك فيه الشخصية الممارسة لفعل الوصف والسرد؛ بل يعد شرطا من شروط تحقق البنية السردية، والوعي بالمكان هو وعي بالوجود الإنساني؛ من هنا تحضر بلاد الأندلس بحمولتها التاريخية والرمزية لتشكل الوعي العربي الإسلامي برقعة جغرافية، ذات دلالات سيكولوجية واجتماعية وثقافية ودينية، وغيرها من الدلالات التي تصنع الحدث، فيكون المكان بإرثه المتنوع ورمزيته التاريخية والحضارية، وفي امتداد الماضي إلى الحاضر؛ حاضنا للأحداث ومنتجا لها ينطوي على وظائف، فدلالاته ناطقة لا تجعله جامدا أو صامتا، وفي ذلك نجد الكاتب يقول: “هنا، عرفت أن التاريخ والاقتصاد صديقان حميمان قد يختلفان لكنهما يعودان سريعان إلى صداقتهما.عندما زرت قصر الحمراء بغرناطة ورأيت ذلك العدد الهائل من السياح يؤدي تذكرته بابتسامة ولهفة، عرفت أن الحجر ليس جامدا بل ينبض بالحياة، …هنا التاريخ لا يصلح للرثاء، بل يصلح فقط لجمع المال. من قال إن الحجر لا صوت له؟ سبحان الله مخرج الحي من الميت !“.x
إن تفاعل القارئ مع النص، هو تفاعل يتم وفق حركة إجرائية تتم خلالها مقاربة النص وفق القراءة الثقافية الخاضعة لسياقات النص، على اعتبار أن النص يحبل بدلالات متعددة، وخضوع النص للقراءات المتعددة تولد هذه الدلالات، وهذه القراءة تتغيا ملامسة النص الغائب الثاوي في رحم النص الأدبي وفق قراءة تأويلية مشروعة، قراءة تكشف المسكوت عنه وأوجه المفارقات التي تكشف عنه الجمل الأدبية التي يتخفى بها النص الغائب تحت سلطة جمالية اللغة، فما قيل عن وعي الكاتب يستكنه القارئ ما قيل عن لا وعي الكاتب فنكون أمام المؤلف المزودوج كما قال بذلك الغذامي: “المؤلف المزدوج يرتبط بالدلالة النسقية…وتفعل الأنساق أفاعيلها، وتلك هي مهمة النقد الثقافي للكشف والتعرف“.xi
الانبهار بالمكان والوقوع في أسر الدهشة، يجعل الذات تحت سلطة الفتنة التي لا يستطيع الكاتب التستر عنها وهو ينقل مشاهاداته تصويرا فنيا من الهناك “فنجده يقول: “الأندلسيون مشرقون. وجوه ناضرة في مكان فاتن تحس فيه بإنسانيتك.وجوه تنضح بالصحة والبهاء تلخص الحسن الموريسكي، لا تجد أمامها سوى الشعور بالضعف مباشرة بعد الانبهار“.xiiويستمر الكاتب في البوح بوقع الدهشة الآتية من سلطة المكان، وفعله في نفسيته المستسلمة لقدسية رسمها الكاتب للهناك للأندلس الفاتن” هنا، تصبح سلطانا للعاشقين وسيدا للحالمين بالرغم منك. تحل حضرة العشق من الحارات والقصور المشبعة بعبق التاريخ. هنا، يصير الجمال فتنة فيتحول في أعماقك إلى محنة، فلا يليق بالمرء سوى الصمت، فالصمت في حضرة الأندلس جمال“.xiii
أمام حضرة الجمال والافتتان بالمكان، طفت على النص بشكل صارخ ثنائيتي الهنا والهناك، “الهنا “الموطن الأصلي/ المغرب حيث منطلق الرحلة، إلى الهناك “الأندلس” الشامخ بإرثه التاريخي والثقافي والحضاري الإنساني.. فحضر هذا الإرث في وعي الكاتب وتم تمرير نقد مضمر في العديد من المحطات؛ التي أبان عنها سياق النص وحضر في لاوعي الكاتب، فعندما يتم ذكر الهناك مقرونا بالهنا، فإنها ممارسة لمقارنة نقدية في الخفاء بما يسعى القارئ /الناقد ملامسة المضمر/الغائب، نسمع الكاتب يقول: “أنا لا أحمل كرها مجانيا للبلد، لهـــذا» الهنا« الذي أعطاني الانتماء ونعمة الانتماء، ولا أرغب في البعد عنه، ولست ممن يبصق في حسائه كما يقول الفرنسيون لكي أبرر لنفسي طيب العيش في بلد الآخرين فكل بلد له وروده وأشواكه“.xiv
حين يصير الخطاب معطى قابلا للتأويل تتأنق اللغة بجماليتها الفادحة، فتُعلن أو تُضمر المقارنات المبنية على ثنائية الهنا والهناك، الأنا والآخر، فاندهاش النفس بالمخالف إيجابا أوسلبا تجعل المقارنة حاضرة في لاوعي المؤلف يستدعيها السياق المحدد للنسق الخفي، على اعتبار أن كل نسق ظاهر يخفي في بنيته السميائية نسقا مضمرا بين سلطة الكائن المُؤثِّـر، والممكن الذي ترغب الذات أن تكونه أو تعيشه، فإن أراد الكاتب أن يبديَ ترفعه عن عقد المقارنات إنما هو نفي يجيز لنا أن يتم تأويله بإثبات العكس مادام: “أن المؤلف المعهود هو نتاج ثقافي مصبوغ بصبغة الثقافة، أولا، ثم إن خطابه يقول من داخله أشياء ليست من وعي المؤلف، ولا هي في وعي الرعية الثقافية، وهذه الأشياء المضمرة تعطي دلالات تتناقض مع معطيات الخطاب سواء ما يقصده المؤلف أو ما هو متروك لاستنتاجات القارئ. وما قلناه عن كون المضمر الدلالي يتناقض مع معطيات الخطاب هو شرط في الفعل النقدي الثقافي“.xv
والكاتب عزيز الشدادي بالهناك “الأندلس” نجده يقول:”هنا،عليك أن تتجنب الدخول في لعبة المقارنة، فقط لأنها تتحول إلى تمرين عبثي يوجع الرأس ويوثر النفس ويشد الأعصاب المقارنة قد تحولك إلى ملوث للبيئة بالرغم عنك عندما تشعر بالتهاب في الشبكة البصرية واحتباس في المسالك التنفسية وتضخم في عضلة القلب فتقوم نتيجة لذلك بتفِّ لعاب المرار“.xvi في الأندلس يتحول ما كان في البداية هناك إلى هنا، وما كان في منطلق الرحلة “هنا” صار “هناك“، انقلبت المعادلة ولكن المقارنة ظلت موجودة في لاوعي الكاتب، يتجنب الدخول في المقارنة ولكنها تصدح بمخبوئها الذي يكشف عن واقعيين مغايرين، واقع الأندلس” الهنا” الفاتن بعمرانه وسلوكات إنسانية تبهر العين، بالمقابل واقع الهناك القادم منه الكاتب وأمام غواية المكان وسلطة الدهشة، فقد وجد النقيض ورفض التصريح علنا وأبانت عنه بنية الخطاب الممثلة في الجمل الأدبية إضمارا، لأنه لو صرح به سيوجع الرأس ويقوم بتـفِّ لعاب المرار على حد تعبيره. من حيث التفوق والإخفاقات تنبعث المقارنات، هذا يحيلنا على السؤال العريض الذي طرح مرارا: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن العرب ؟ فمن رحم المقارنة بين الأنا والآخر، وُلد السؤال، وإن لم يعلن ويصرح الكاتب بذكر إسبانيا في علمية الإغراق الشديد في الوصف، على اعتبار أن هذا البلد الأوربي حاضن للتاريخ الأندلسي، هنا نــستشعر الكاتب في لا وعيه يردد السؤال نفسه عنما نجده يقول: “أتساءل مع نفسي: ماذا حملت معي لهذا البلد؟ أي نموذج أحمله لأهديه لهذا البلد ليصبح عنواني؟ أنا القادم من »الهناك«، مجرد رأس ذي عينين تعودتا على على مشاهد الفوضى وتخلف مستحق طال زمانه ومازالت مدة صلاحيته سارية المفعول. أستغرب مع نفسي عن مصدر هذه القدرة التي صبرت بها على رؤية التخلف ومظاهر الهشاشة تمر أمام عيني“.xvii
بوصف أنيق فادح السبك اللغوي، يتماهى الذاتي بالموضوعي، فنجد الكاتب كما سبق ذكر هذا الأمر، بشكل صريح وبمدح شديد أضفى على المكان\الأندلس هالة من القدسية من خلال الدهشة الآتية من المشاهدات والانفعالات تجاه سلوكات، فصار” الهنا“/الأندلس حيث يوجد الواصف \الكاتب رمزا للنظام والنظافة والاحترام، وإتقان فن التعامل ووو…نسمع الكاتب يقول: ” أعشق هؤلاء النصارى وهم واقفون في الصف …كل الحركات تصبح دالة حيث يصبح لكلمة «شكرا« معنى آخر عندما تنطق بمنتهى وترفق بابتسامة بيضاء.. هنا، النظام سلوك يصيب بالعدوى والناس ليس لديهم عمى الألوان…هنا أدركت معنى القيام بالأشياء بلذة ومتعة…هنا، في الأندلس، تصل إلى فهم عبث الفوضى عندما تصطدم قسرا بالنظام المحيط بك الذي تحيا فيه بوعي…هنا تدرك معنى النظام: هو منتهى التناسق. تحس به في المعمار وشكل البنايات وتصميم المنتزهات وهندسة الطريق….هنا، لامجال للفوضى المنظمة“.xviii ما حضر بشكل معلن بوحا في “الهنا“\الأندلس، يوجد ضمنيا وبمقارنة مضمرة نقيضه في” الهناك“\البلد الأصلي الذي ينحدر منه الكاتب.
إن المقارنة بين ثنائيتي “الهنا” ” والهناك” التي تم الكشف عنها من خلال عنصر المكان كآلية من آليات تشكيل بنية النص السردي، إنما مرده إلى اعتبار النص الرحلي حادثة ثقافية بتعبير عبد الله الغذامي، ويمكننا القول: إن الرحلة نص ثقافي ومادام الأمر كذلك، فإن اشتغال اللغة عبر الحيل الجمالية الماتحة من الدائرة البلاغية، تمرر بعض الأنساق بشكل خفي ومضمر، فتتشكل في النص الغائب، فما كان من النقد الثقافي والقراءة الثقافية سوى النبش في لاوعي الكاتب لإفشاء المسكوت عنه واستجلاء المضمر. و كثيرة هي الأمثلة على المقارنة التي تمت بين “الهنا” “والهناك“، مقارنة آتية من الدهشة التي أطلقت العنان للكتاب جعلت الأندلس بماضيها وحاضرها تسكنه، فهو القائل: “هنا، أحس بأني مجرور إلى الماضي بوعي الحاضر…هنا تخلصت تدريجيا من كلمة »للأسف« وغمرتني السعادة عندما توقفت عن الاعتقاد أن زمن العرب ومكناهم كانا رائعين. الروعة هي الآن، أمام ناظري. وعندما يصلني نصيبي كاملا من البهجة التي تهديها المدينة، أكتفي بقول: »عيني لغير جمالكم لا تنظر«.xix
أمام بلاغة الوصف وجمالية السرد تحققت ثقافة النص الرحلي، والنص هنا” ليس فحسب نصا أدبيا وجماليا، ولكنه أيضا حادثة ثقافية“.xx وبما أن الأمر كذلك وأمام ممارسة لفعل الوصف والتأثر الجمالي بالمكان ومكوناته، فإن الدلالة النسقية وفق محددها السياقي تكون هي الأصل النظري للكشف التأويل، مع وجود الدلالات الأخرى الصريح منها والضمني“.xxi من هذا المنطلق وبناء على التمويه اللغوي الممارس في عملية الوصف الذي أثــت بيت السرد، نجد الكاتب عزيز الشدادي يوظف كلمة الأندلسيين أكثر من مرة، وفي مواضع أخرى يستبدلها بكلمة نصارى، فنجده يقول:”…أحاول أن أنتشي بعطر هؤلاء الأندلسيين…الأندلسيون مشرقون. وجوه ناضرة في مكان فاتن تحس فيه بإنسانيتك..أناقة الأندلسيين واضحة…يخيل لي أن هؤلاء الأندلسيين لم يأتوا إلى الحياة إلا لعيشها…”.xxii وفي المكان العام الذي وسمه بالأندلس، و بتعدد الفضاءات المكانية المؤثتة للمكان العام نجده يقول: “أعشق هؤلاء النصارى وهم واقفون في الصف. يخيل لي هذا البلد يسير وفق عقارب الساعة، فأنضبط وأترك فوضى الأسئلة والأحاسيس المتلاطمة بداخلي تستريح على حافة القلب..”،xxiii هذه المزاوجة بين كلمتي نصارى والأندلسيين تخفي نسقا مضمرا منغرسا في الوجدان العربي والإسلامي، فسقوط الأندلس ضاع معه مجد تليد سمي بالفردوس المفقود، فالكاتب يصف وصفا فادح الجمال إلى حد القداسة الروحية للمكان العام الذي حدد إطاره سلفا “بالأندلس“، وفي لحظات الدهشة تجدد اتصاله بالحياة فهو القائل: “أعشق الدهشة بجنون لأنها تجدد اتصالي بالحياة التي أحترمها حينما تمنحني لحظة، لحظة فقط، أحس فيها بذلك الخدر اللذيذ لحواسي“.xxiv
عندما نتأمل بوح الكاتب في حضرة الدهشة والجمال، فيأخذ الخدر اللذيذ ليغمر وجدانه، ويصرح به علنا، وعندما نجد يقول: “هنا أحس بأني مجرور إلى الماضي بوعي الحاضر“،xxv تأتي مشروعية الأسئلة الآتية:هل الكاتب عزيز الشدادي لحظة الوصف وتسجيل تأملاته للأمكنة التي زارها بالهناك “الأندلس“،هو إطراء لمجد الأندلس” الماضي” أم إسبانيا “الحاضر” التي تنتعش بعبق تاريخ الفردوس المفقود ؟ وهل الانتماء الهوياتي المترسخ في الوعي الجمعي بكون الأندلس هو أندلسنا جميعا بمجرد النظر إلى إسبانيا ينبعث الجرح من رماده فنحس بالغبن؟
يتماهى الوعي باللاوعي في عملية السرد، فنكون أمام المؤلف المزدوج، فــفي “كل ما نقرأ وما ننتج وما نستهلك هناك مؤلفين اثنين، أحدهما المؤلف المعهود، مهما تعددت أصنافه كالمؤلف الضمني والنموذجي والفعلي. والآخر هو الثقافة ذاتها، أو ما أرى تسميته هنا بالمؤلف المضمر، وهو ليس صيغة أخرى للمؤلف الضمني، وإنما هو نوع من المؤلف النسقي–كما هو الشأن في حركة النسق ومفعوله المضمر“.xxvi من هذا المنطلق نجد الكاتب عزيز الشدادي يقول: “لم تكن الحسرة على الماضي من هواياتي، تأكد لي صدق موقفي عندما وصلت إلى “الهناك” وعرفت أن التاريخ يلوي عنقه إذا التفت إلى الوراء مثل ثيران المصارعة..”xxvii وقبل هذا البوح نجده يقول: “ما ذهبت إلى” الهناك” لأبكي على الأطلال ولا لأتأكد من حقيقة الوجود العربي بالأندلس: غزو جائر أم فتح مبين؟ بل أتيت لأفتح عيني على الجغرافيا الحديثة رغم أني لست متشبعا بثقافة الهزيمة…”xxviii ، فأي جغرافية يقصد الكاتب؟ جغرافية إسبانيا أم الأندلس؟ ثم قوله: لم تكن الحسرة على الماضي من هواياتي وقبل هذا البوح قال: لست متشبعا بثقافة الهزيمة، هذا البوح المرتدي لباس النفي يجيز ويجدد مشروعية الأسئلة التي طرحناها آنفـــا.
-
الذات من فعل الكتابة والبوح إلى سؤال الهوية:
ترتهن الرحلة إلى تحقيق غاية منها ماهو ذاتي ومنها ماهو موضوعي، وقد يجتمع الاثنان فتتشكل بنية السرد عبر تواشج الشكل بالمضمون، بين الجمالي والثقافي، فالمكان يصنع المشاعر ويحتضن العواطف، فتحصل تلك الألفة التي تقذف بالذات إلى عوالم من الحرية المخلصة من سجن الرتابة؛ التي تحصلت من تراكمات شتى للبحث عن متعة وغواية تتحصلان من الدهشة في مكان تتغيا الذات انعتاقها من اللامحتمل؛ والقبض على المشتهى من قصدية السفر، نسمع الكاتب يقول: “أحسست أن حريتي تحولت إلى سجن داخل قفصي الصدري، حزمت حقيبتي وسافرت في اتجاه أول سجن مفتوح لأعيش حريتي من جديد. هذا أنا، دائما أعيش متوثبا في انتظار تلك اللحظة التي تسمح لي بأن أجني نصيبي من الدهشة التي تمنحها الحياة، تلك الدهشة التي تجعلك ترفع حاجبيك وتفتح عينيك على اتساعهما عندما تتحول الرؤية إلى سحر“.xxix يُــعدُّ هذا الدافع موضوعيا حين تتلقف الذات كل ما هو جميل فيقذف جُواها لحظات من المتعة والانتعاش، وتسترق عن سبق إصرار وترصد عناصر الجمال في انفعال وجداني شديد، أبان عنه الوصف المغرق للمكان بشخوصه وعلاقات إنسانية عايشها، ويتجلى الدافع الذاتي في الهوية الغائبة التي كانت محط تساؤل خلال جلسة مسامرة بين الكاتب ووالده حول أصل العائلة فهو نفسه القائل: “وكانت جلسة مسامرة حول براد شاي مع أبي الفقيه رحمه الله، السبب في بحثي عن آفاق أكثر رحابة لأهيء نفسي على إحساس الدهشة الذي يجعلني أفقد صوابي ليعود لي جنوني العاقل ونفض الغبار عن حواسي. تفرع الحديث إلى البحث عن أصل العائلة“.xxx
حوارجعل الكاتب يتخذ من السفر دافعا ذاتيا لنفض الغبارعن أسئلة عالقة في الذهن تستدعي الإجابة، إجابة تكشف المستور عن ماضٍ غابر استدعاه حاضر، مهدت له سياقات محددة النبش في الذاكرة التي أبت النسيان، وأي نسيان حين نسمع الكاتب يقول: “رحمة الله عليك يا والدي، أبيت ألا تترك الفراغ سلطانا على نفسي، فوليت ظهرك وتركت سؤال البحث عن سَــفر أول جد لي يلح علي لأملأ فراغ الأجوبة، عمن يصحح لي سِفري هذا؟“.xxxi تزاحمت الأسئلة؛ واتقدت شعلة الرغبة في شد الرحال نحو الهناك/الأندلس، لتجديد الوصل بالهوية الغائبة ولجعل جذوة الاشتياق تخبو ولو مؤقتا بعد الارتماء في حضن الجمال ومعانقة أصيص بعبــق حدائق الأندلس، فيعانق الماضي الحاضر في لاوعي الكاتب حين تعمل الدهشة فعلتها فيتجدد الحب، حينها يصدح الكاتب ببوحه: ” يفنى الزمان وحبكم يتجدد“.xxxii نار الحب متـقدة الكاتب نفسه يصرح: “كانت تلك الجلسة مع أبي حطبا أوقد نار السفر في نفسي التي عهدتها على أهبة الانطلاق مع أول ريح تلفح ذاتي، جلسة دفعتني دفعا لصلة الرحم مع هذا الفردوس الذي يسمى» الأندلس«والتي كلما ذكرت تلقت القلب كمن يتذكر وجها عزيزا بعد طول غياب“.xxxiii صدحت الأنساق ببروزها في توليفة هذا السَّفر الذي أثت في “السِّفر الرحلي” من النسق التاريخي والحضاري والديني والفكري، واستحضار الهوية الذاتية في نسج خيوط محكي السفر: “أنا المورسكي، عربي الروح، شرقي الهوى، أندلسي الذوق، ها أنا قد عدت. خرجت من الرماد بعد انطفاء الحرائق.xxxiv يدفعنا هدا الشاهد إلى القول: إن الأندلس تسكن الكاتب، فقد استدعى الجانب التاريخي والحضاري والثقافي والهوياتي، وبالتالي فإن النص المُشَكَّل بواسطة اللغة هو نتاج ذاتي ونفسي، تجعل النص وسيطا لغويا يتم من خلاله تمرير مجموعة من الأفكار والانفعالات والتأملات سواء المعلن منها والمضمر، وبالقراءة الكاشفة يتم اقتحام المستور في إطار القراءة المشروعة التي تقوم بتفجير مكامن الخطاب واستنطاقه من خلال أنساقه وسياقات إنتاجه، بناء على ذلك “فعلى التحليل أن يجعل من كل مظاهر السلوك الإنساني سبيلا نحو الكشف عن المعاني التي لا يكف السلوك الإنساني عن إنتاجها“.xxxv
إن النص الأدبي والإبداعي بشكل عام مشكل من اللغة والثقافة، من هنا فإن النص كائن لغوي وثقافي، لم يعد بنيــة مغلقة بل إنه نص منفتح قابل لتعدد القراءات، فما يحققه النص من متعة جمالية عبربنياته التركيبية والصرفية والنحوية تتوارى خلفه أنساق ثقافية بوصف النص علامة ثقافية؛ وبتعدد القراءات تنكشف دلالات جديدة على اعتبار أن “كل قراءة هي اكتشاف جديد، لأن كل قراءة تستكشف بعدا مجهولا من أبعاد النص، أو تكشف عن طبقة من طبقاته الدلالية“.xxxvi وأن“كل قراءة لنص من النصوص هي قراءة فيه، أي قراءة فعالة منتجة، تعيد تشكيل النص، وإنتاج المعنى، ولهذا نقول بأن القراءة الحرفية هي خدعة، اللهم إلا إذا كانت تعني التكرار الأجوف أو الصمت، أي اللاقراءة“.xxxvii تتحقق المتعة الجمالية للرحالة، وسرعان ما يطفو القلق الداخلي حينما تصدح ثنائيتي الهنا والهناك بالمقارنات في صورة “الأنا والآخر“، علاقة جدلية في جوفها مخبوء مؤلم وشعور منكسر تستشعره حين يقول: “هنا، تصبح كل التفاصيل المؤلمة في “الهناك” مجرد بديهيات لا تستحق الوقوف عندها، وتصير المقارنة موجعة لا ينفع معها مسكن الآلام حتى لو أخذت كل حبوب العلبة….لماذا يزهر الورد دائما في أيديهم؟….لماذا لم يعد الورد يزهر في حدائقنا؟،xxxviii فانفعال الذات وانبهارها تجاه الآخر المتفوق في مجالات عدة تولد الدهشة وتجعل الأسى يتسرب إلى الوجدان فيردد الكاتب: “لماذا لم يعد الورد يزهر في حدائقنا؟“.xxxixواضعين في وعيينا وإدراكنا أن من سمع ليس كمن رأى، والشدادي نفسه يقول:” ملأت عيني بتراث الحضارة الأندلسية..لأخلص وأقول إن الأندلس لا تستحق الحكي بل المشاهدة“.xl
-
على ســبـيل الختم:
الكتابة غواية والقراءة لذة ومتعة، وعندما يتواشج اللغوي بالثقافي تحصل المتعة المضاعفة عندما تصيبك الكتابة الجمالية بعدواها وسحرها اللفظي والدلالي، أجدني من خلال هذا العمل الإبداعي السردي قد حصلت على هذه المتعة من خلال جمالية السرد التي تحققت في ثوب الوصف البلاغي الأنيق، رداء إن أخفى في بطن المتن الرحلي أنساقا مضمرة، فعزيز الشدادي أخذنا معه في رحلته عبر تصويراته ومشاهداته لنحيي الوصل بالأندلس المسمى بالفردوس المفقود، وجعلنا نستحضر معه بيتا شعريا لأبي البقاء الرندي حين قال: “أعندكم نبأ من أهل أندلس…قد سرى بحديث القوم رُكبانُ“.
إن المكونات البنيوية للنص الرحلي من وصف وسرد وزمان ومكان، وحضور الذات الفاعلة لعلمية الوصف والحكي كذات مدركة واعية للموضوع، وفي تفاعل هذه العناصر مجتمعة مع الأنساق المعلنة والمخبوءة، تحدّد الإطار العام للمكان / الجغرافيا/الأندلس كرمز حضاري إنساني ملهم بمرجعياته، ليستقر في الذهنية العربية الإسلامية والغربية حتى، وأن ماكتب عن الأندلس يعد نصا إنسانيا قبل أن يكون نصا ثقافيا وجماليا.
i عزيز الشدادي، صيف الوصل بالأندلس سفر الدهشة، سليكي أخوين –طنجة، الطبعة الاولى–فبراير 2018
ii عبد العزيز حمودة، الذين سرقوا النص ما بعد الحداثة: نظرية التلقي، مجلة عالم الفكر، ع.298،2003 ، ص:111
iii عبد الله الغذامي، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، المركز الثقافي العربي، الطبعة السابعة2021، ص ص:7-8
iv نبيل منصر، الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء– المغرب، الطبعة الأولى،2007، ص.45.
xxxv سعيد بنكراد، النص السردي نحو سميائيات للإيديولوجيا، دار الأمان– الرباط، الطبعة الأولى،1966، ص: 170.