جهاد الجملي.. راعية الطفولة التي عرت واقعها القاتم بجرأة و شجاعة
مراكش : مغربيات
غالبا ما ينظر إلى موظفي المصالح التابعة للقطاعات الحكومية على كونهم مجرد أشخاص ينفذون أجندات، محددة سلفا، لا تترك أي مجال للاجتهاد وممارسة القناعات الشخصية، غير أن جهاد الجملي مديرة مركزي حماية الطفولة إناثا وذكورا بمراكش كسرت هذه القاعدة، لتصبح بذلك إطارا تابعا لمصالح الوزارة لكن بقناعات راسخة جعلت جهاد منها بوصلتها التي أنارت لها طريقا مليئا بالإنجازات و النجاحات التي طبعت مسيرة متميزة في مجال حماية الطفولة.
امرأة بعقلية منفتحة وقناعات لا محيد عنها، استطاعت أن تلتحم بقضايا الأطفال الجانحين وفي وضعية صعبة من الوافدين على مركز حماية الطفولة. في كل يوم كانت جهاد الجملي تثبت أن قضية الطفولة من أصعب و أعقد القضايا ببلادنا، لذلك فقد كانت تتحرك فوق أرض ملغومة بحذر شديد حتى تترك أثرا طيبا في نفوس أطفال عانوا من الهشاشة و التفكك الأسري و التشرد ما جعلهم أكثر الأشخاص حساسية من سوء المعاملة.
طموح
في 2009 حلت فتاة شابة و طموحة كمربية بمركز حماية الطفولة التابع آنذاك لوزارة الشباب و الرياضة بمراكش. في الحقيقة هذه الشابة، التي كانت قد تلقت تدريبا بمركز لتكوين الأطر التابع للوزارة بعد حصولها على شهادة البكالوريا علوم رياضية، كانت قد غيرت الاتجاه نحو التدريس بعد تخرجها عندما يئست من انتظار التعيين.
بعد قضاء سنوات في مهنة التعليم بمراكش، سوف تتلقى جهاد الجملي قرارا بالتوجه للمصالح التابعة للوزارة قصد أمر يهمها، وهناك وجدت قرار تعيينها بنفس المدينة، التي تزوجت بها و امتهنت فيها التدريس، بمركز حماية الطفولة إناث بمراكش الذي التحقت به كمربية، لتلتحق بالجامعة من جديد وتحصل على الإجازة في شعبة علم الاجتماع.
تقول جهاد “جئت إلى المركز بطموح كبير في الإنخراط في قضايا الطفولة، و بذل ما أستطيع للمساهمة في تأهيل هؤلاء الصغار لكي يتمكنوا من الإندماج من جديد في المجتمع، غير أن المشاكل التي واجهتها كانت أكثر مما يحتمل..“
في 2012 سوف يتم تعيينها كمساعدة تربوية بنفس المركز، لكن و بعد انقضاء ثلاث سنوات من العمل بصدق و تفان، أي سنة 2015 ستجد جهاد الجملي شكاوى كثيرة بشأنها من قبل مسؤول، ليتم توقيفها عن العمل، بدون مبرر واضح. عن هذه الفترة الصعبة تحكي جهاد“السنة و نصف التي قضيتها ببيتي بعد توقيفي عن العمل جعلتني أسترجع جهاد التي ضاعت مني لثلاث سنوات قضيتها بعيدا عن أسرتي و أنا أعمل بجد و إخلاص، و الحقيقة أن من تسببوا في هذه الظروف لم يعلموا أنهم أسدوا لي خدمة كبيرة جدا، لانني تصالحت مع نفسي و تقربت أكثر من أسرتي التي كنت قد أهملتها بسبب ظروف العمل“.
في لحظة تكريم
درس قاس
رغم الظروف القاسية التي مرت منها جهاد الجملي إلا أنها لم تنكسر و لم تفقد عزيمتها في العمل، فقد كان درسا قاسيا حقا، استطاعت أن تستثمره لصالحها لمدة سنة ونصف، قبل أن يتم تعيينها من جديد كباحثة عائلية لدى المحكمة الابتدائية بمراكش. كان أصحاب القرار يعتقدون أنهم عاقبوها، لكنهم نسوا أو تناسوا أنهم جعلوها تقترب من أسر الأطفال وتتعرف عن قرب على مشاكلهم ومعاناتهم، وهو الشيء الذي عرفت جهاد كيف تستثمره، فيما بعد، لصالح هؤلاء الأطفال، و لتطوير إمكاناتها و قدراتها على التدخل في حل مشاكلهم و الانخراط بشكل فعلي في تأهيلهم.
في سنة 2016 سيصدر قرار بتعيينها مديرة لمركز حماية الطفولة إناث وهو نفس المركز الذي غادرته منكسرة، لتعود من جديد وهي مرفوعة الرأس نظير ما أسدته من خدمات للطفولة. وهنا سيصعد نجم جهاد الجملي التي كانت، كلما أخذت كلمة في لقاءات يحضرها وكلاء المملك بمحاكم بربوع المملكة و نشطاء في مجال حقوق الإنسان، إلا وعرت واقعا مأساويا قاتما للطفولة المغربية الجانحة، من خلال تدخلات شجاعة و جريئة لكن رصينة عبر إعطاء الأمثلة الحية لأطفال كانت تستقبلهم بالمركز.
لم تكن جهاد مجرد موظفة تقوم بعملها و تنصرف إلى بيتها في المساء، بل إنها انخرطت بكل ما تملك من وقت وجهد و إمكانات، متخذة من الأطفال أسرتها التي لا تنام إلا و كل أفرادها مرتاحين و آمنين، إلى أن صدر قرار جديد بجعلها مديرة على المركزين معا أي الخاص بالإناث و الذكور معا سنة 2021، وهي المهمة التي يبدو أنها لن تكون سهلة، تؤكد جهاد نفسها.
عن هؤلاء الأطفال المغاربة الذين يعيشون وضعية صعبة تقول جهاد “ما يحز في نفسي هو تملص العائلات من مسؤولياتهم و واجبهم تجاه فلذات أكبادهم، حتى أن من بين المشاكل التي تعترض العاملين في مجال مراكز حماية الطفولة هي الأسر التي أصبحت تتملص من مسؤوليتها و ترفض استقبال أبنائها بعد انتهاء مدة العقوبة و مغادرتهم للمركز. ”.
و الحقيقة أن هذه الأسر، ترى جهاد، أنه يجب محاسبتها على عدم القيام بواجبها تجاه أبنائها، خصوصا من يأتون غير مسجلين في كناش الحالة المدنية، رغم أن الدولة وفرت تسهيلات بهذا الشأن، عن طريق تبسيط المساطر إلى أبعد الحدود.
عن النظرة السلبية التي يحملها المجتمع بحق الأطفال المودعين بمراكزحماية الطفولة، تؤكد بالقول “يجب أن نعلم أن ولوج الطفل للمركز هو رهين بالسلطة التقديرية للقاضي، فيما لو كان مجرما لتم إيداعه السجن. إن أكبر نسبة للأطفال الوافدين على هذه المراكز هم أطفال في وضعية صعبة مثل أطفال في وضعية التسول أو التشرد أو غيرها من وضعيات هشاشة، أما بالنسبة للجنح و الجنايات فلا تتجاوز نسبتهم 30% فقط من مجموع الحالات التي نستقبلها بالمركز“.
جهاد الجملي رفقة طفلتين في لحظة تتويج
تكريمات
حظيت جهاد الجملي بتكريمات لا حصر لها من قبل العديد من الجهات، و المؤسسات وكانت مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء قد قامت بتكريمها مؤخرا بابن جرير، في حفل توج مسيرة حافلة بالعطاء و التضحية ونكران الذات، حتى أنها لم تعد تتذكر عدد التكريمات التي حظيت بها من قبل العديد من الفاعلين في المجتمع المدني، بفضل ما أسدته من خدمات في مجال الطفولة، وبفضل أنها لم تكن يوما مجرد موظفة بقطاع يعنى بالشباب، بل منخرطة في العمل الاجتماعي بكل ما لديها من مؤهلات اكتسبتها عن طريق التفاني و المثابرة و العمل الجاد. ما أكسبها مصداقية هو كونها سعت دوما لتقطع الطريق على من يسترزقون بالأطفال، وآمنت دوما بأن ولولجها للمجال هو التزام أخلاقي تجاه الطفولة المغربية، التي انصهرت فيها جهاد حتى باتت واحدة من الأسماء التي تحظى بالاحترام بمراكش. تعمل جنبا إلى جنب مع الجمعيات التي تسعى لحماية الأطفال و إعادة إدماجهم في المجتمع، عن طريق توفير كل المؤهلات التي ينبغي التسلح بها للحد من النظرة السلبية التي يجدونها بعد مغادرتهم للمركز، وتبدي صرامة في قطع الطريق أمام سماسرة الأطفال الذين هدفهم المتاجرة بقضية من أنبل القضايا بمجتمعنا، ولا تتوانى في تقديم الدعم للجمعيات الجادة التي تقوم بأنشطة تربوية و تنخرط في التأطير و تقديم الدعم النفسي للأطفال. أما بالنسبة للأطفال المدمنين فيتم التعاون فيه مع مؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء.