الذات بين تشظي الكتابة ومحنة التأويل
بقلم فريدة بوفتاس
الحديث عن الكتابة، كممارسة بشرية، يثير من الجدل الكثير، مثلما يثيره أيضا تعقد الذات الإنسانية، بوصفها ذاتا يدخل في تحديدها كل من بُعديْ الوعي والحرية .
هذان المحددان الأساسيان لها، يجعلانها ممارسة لا تسعف بأن تحقق إجماعا حول ماهيتها، غاياتها، قيمتها، حدودها، وطبيعة علاقتها بالواقع، وأيضا ما يمكن ان يتولد عنها من تأويلات .
وبافتراضنا أن الكتابة هي محاولة تمثل واقع ( موضوعي أو ذاتي ), رغبة في ” الكشف ” عنه ، لتواجه الكتابة نفسها امام عملية تأويلها .(بوصفها نصا يقرأ).نص ينطوي على “حقيقة “و“معنى “، من هنا اجدني، اتقاسم بعضا من فضولي المعرفي وأتساءل :
إلى أي حد تنجح الكتابة في أن “تكشف “عن واقع، وتنتج بعد تمثله “حقيقة “و“معنى “؟.
ألا يمكن أن تكون الكتابة (نص)، أحيانا لحظة طمس للحقيقة، وبناء اللاحقيقة (اللامعنى ).؟
هل يصح أن نتحدث في الكتابة ( النص )، عن أنه يمتلك معنى واحدا أم سيكون حديثا عن بؤرة من المعاني ؟
مادام النص سيصبح مجالا للتأويل، فإلى أي حد يتوفق هذا الأخير في عملية الإمساك “بحقيقته“؟
ألا يمكن أن نتحدث هنا عن التأويل كإعادة كتابة للنص وفق ذات منغلقة على نفسها ؟
ليس غريبا، أن تطرح الكتابة، كفعل متجذر في الذات المبدعة للنص، كل هذا الاندهاش المدفوع بالرغبة في المعرفة، والمصرح بالجهل ،لمجال ما يفتأ يأسرنا فكرا وممارسة .
الكتابة وهي قنطرة تعبر الذات من خلالها إلى خارجها، أو لنقل هي ذاك الارتماء الذي تحياه الذات نحو عالمنا الداخلي، لتعبر إلى خارجها، والذي قد يبدو أنه عبور سلس، شفاف، وأيضا متاح، لكن إدراكنا لطبيعة الواقع، الذي يضج بكل شيئ،بالعوائق ذات الطبائع المتعددة، إلى جانب وعينا بأن الذات تدخل في شبكة من العلاقات المادية والرمزية مع الآخر ومع العالم، وحتى مع ذاتها ،كل هذا يطرح علينا ضرورة التساؤل، حول ما إذا كانت الذات المنتجة للكتابة (للمعنى )، وهي التي تحاول تمثل هذا الواقع المتشعب (ماديا كان أم غير مادي ). والساعية لكشفه، أن تنجح في هذه التجربة ؟
هل يمكن اعتبار إخفاق تجربة كتابة ما رهين باخفاق الذات في مجاوزة معيقات الواقع ؟
بمعنى ٱخر، هل يصح ربط “نجاح“تجربة الكتابة بمدى تحررها من سلطة الواقع، وتقويض كوابحه ؟
إن الذات وهي تمارس فعل الكتابة ،بوصفه فعل تحرر وانبثاق، يسمح لها من خلاله أن تنسج خيوط عالم جديد، تبث أشياء وقيما …عبر كلمات، أي أنها في حاجة دائمة للغة، مما يجعلها وهي فعل تحرر، أن ترزح تحت سلطة هذه الأخيرة، والتي هي لغة اجتماعية، حاملة لدلالات وقيم، الأمر الذي يطرح مسألة علاقة الذات المبدعة باللغة، وتعكس طبيعة علاقته بالمجتمع و بؤر توتره. من هنا نكون أمام نصوص / لغات، إذ أن كل كتابة ( نص ) وضعنا أمام حمولة ثقافية، إيديولوجية ما.
تعدد وتفاوت يعلن أن ثمة لغة “وليدة “تغادر رحم لغة موروثة او ربما تظل تسكنها ،اي إما أننا أمام تساكن وتوافق لغوي يعكس توافقا معماهو مجتمعي ، مع الموروث والعكس صحيح .
إن فعل الكتابة كلحظة تحرر بامتياز ،تفترض بل تستلزم الانفكاك ،عن اللغة الموروثة المثقلة بدلالات تحيل على واقع تجهد الذات غيرالمتصالحة معه ،ان تغادره ،مما يضعها في مأزق ،وفي وضعية إحراج،وعجز .
الذات هنا لا يعوزها الغنى اللغوي ،لكنها تفتقر إلى ٱليات تعبير تمكننا من الكشف ،عن مظهر بعدها الواعي والحر .
الذات لا تستطيع ان تمارس تحررها الفعلي (كذات تكتب ,تنتج نصا مغايرا ) إذا افتقرت الى شجاعة الإفصاح والكشف عن ما تحجبه اللغةوالواقع معا .
اللغة كاشفة عن ما أريد له أن ينكشف ، ليتم إبداع نص يخرج عن دائرة الحقيقة المتعارف عليها اجتماعيا ،اي هو نص يعلن موت حقيقةتحرسها لغة اجتماعية موروثة ،“تصون “ما هو سائد ،وماهو جاهز .
اللغة تظل مطية للكشف ،لكنها تضطر للجوء إلى الرمزية،الاستعارة،المجاز…
مما يلبس النص غالبا غموضا ،ويفتح الطريق أمام القارئ لتلمس أكثر من معنى ( حقيقة ) يعتقد انها تسكن النص .
إن الذات كلما عجزت عن تخطي ( الاحتباس الواقعي ) كلما ابتعد النص عن معناه ،اي يقل حجم الحقيقة ،هنا يكون ثمة إخلال بشرطالحرية ،وتكون الكتابة قد إبتعدت عن ما لأجله وجدت ،واختيرت كوسيلة للإجلاء والتحرر،وكارتماء داخل ذات متشظية ،تسعى الى تمسكعن تجربة إنسانية ما ،كان من الممكن أن تسهم في إغناء ماهو إنساني وفك العزلة عن المسكوت عنه ،في افق تغييرواقع يأبى ان يتزحزح،ويسمح بتهييئ شروط ملائمة لكتابة تكشف ولا تحجب .
في غياب صفاء حقيقي داخل النص ،واقصد هنا شفافية تعري مقاصد الذات المبدعة ،يكون التأويل لما هو غير مكشوف عنه ،بمثابة عنفعلى ماهو مكتوب ،لان الذات المؤولة ،والتي تنطلق بدورها من دوائر محدودة ،ومنغلقة (انتماء طبقي ,ثقافي ،عرقي ،جنس ، طائفي.. )يسجن ” حقيقة النص داخل احكام مترهلة ،لا ترقى في الغالب الى مستوى كشف المحجب ( الغائب )والذي يتوهم المؤول انه حاضر .
وهكذا ،نكون أمام فشل في اختراق النص ،الذي يظل محتفظا بمعناه ،الاصلي الذي لم يغادره ، والذي لم ينجح في أن ينتقل إلى ذهن المؤول، مما ينجم عنه عدم تحقق تواصل فعلي وحقيقي بين ذات تنشئ معنى ،
،وأخرى تحاول ان تخترق النص، عبر “سراديب اللغة “،وهي بذلك تلقي ظلال ذاتها القارئة على المقروء ،الذي ينتمي الى دائرة الذات بكلمكوناتها الظاهرة والباطنة، والتي صعبة المغامرة في إدعاء معرفتها، أو النجاح في كشف مكنونها. وهكذا نجد أن النص يعرف على الدوامفشل اختراقه من خارجه، وبالتالي يعيش محنة تأويله .