الحق في حرية التعبير في سياق الذكاء الاصطناعي
عبد الله أمحزون
يشهد العالم تحولات تكنولوجية غير مسبوقة في تاريخ البشرية، ومن بين هذه التطورات دخول العالم في العصر الرقمي والذكاء الاصطناعي، الذي خلق فرص وتحديات جديدة، وأحدث ثورة صناعية رابعة، اندماج التكنولوجيات المتطورة في المجتمعات وحياة الإنسان في جميع المجالات، التعليم و النقل (السيارات ذاتية القيادة) و الطب و الصناعة والاتصالات و الاقتصاد والفضاء و الفن و الإعلام و التجارة و مواقع التواصل الاجتماعي.
وشهدت بداية 2010 طفرة جديدة للذكاء الاصطناعي مع النمو المتسارع للقدرة الحاسوبية و زيادة تدفق البيانات التي تتيحها “غوغل” و”فيسبوك”وباقي منصات التواصل الاجتماعي ، 240 ألف صورة منشورة كل دقيقة و 44 مليون لايف على منصة فيسبوك وغوغل 5,7 مليون بحث عام 2021 « Data Never Sleeps.9 » .
دخل الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة من التقدم والتطور، بعد أن ظل سنوات يراوح في مكانه ، تفوقت نظم الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري ، الذي هزم بطل العالم في الشطرنج عام 1997، ثم انتصر برنامج “ألفاغو” سنة 2016 ، على أفضل اللاعبين في العالم من كوريا الجنوبية في لعبة “كو ( GO) الصينية “.
أدرك العالم التحولات العميقة وتأثير الذكاء الاصطناعي على الحضارة البشرية، والمخاطر والتداعيات المحتملة على حقوق الإنسان، مما دفع العديد من الباحثين والمنظمات إلى التعبير عن القلق والتفكير في آلية دولية لضبط المعايير المرتبطة باستخدام نظم الذكاء الاصطناعي .
ما هو الذكاء الاصطناعي؟ وكيف يؤثر على التمتع بالحق في حرية التعبير؟
مفهوم الذكاء الاصطناعي
لا يوجد تعريف لمصطلح الذكاء الاصطناعي يحظى بقبول عام، فمصطلح الذكاء الاصطناعي هو نظام علمي استخدم لأول مرة في عام 1956 في مؤتمر “دارتموث” في “هانوفر” بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال انعقاد مدرسة صيفية نظمها باحثون أمريكيون: أبرزهم“جون مكارثي ” “مارفن مينسكي ” .
الذكاء الاصطناعي هو ذكاء غير بيولوجي، بشكل عام يقصد بالذكاء الاصطناعي البرمجيات التي تحاكي الإدراك والتصور البشري، يقدم استنتاجات وتنبؤات ويتخذ قرارات.
وعرًّفت توصية اليونسكو الذكاء الاصطناعي، نظما قادرة على معالجة البيانات والمعلومات بطريقة تماثل السلوك الذكي وتنطوي عادة على خصائص تضم الاستدلال والتعلم والتنبؤ والتخطيط والتحكم أو السيطرة.
يعتمد الذكاء الاصطناعي في عمله على خوارزميات الحاسوب التي توجد في كل ركن من أركان الانترنت، وفي محركات البحث ، تعمل هذه الخوارزميات على تحليل البيانات الضخمة بسرعة فائقة مما يمكِّن من أداء نظم الذكاء الاصطناعي بوظائف التنبؤ و اتخاذ القرارات.
ويمكن من تنظيم نتائج البحث ويقرر ما ينشر و يوصي بمتابعة محتوى معين للمستخدمين بناء على تحليل بياناتهم، ويؤثر على نوع المعلومات التي يراها الأفراد ويمكنهم مشاركتها عبر الانترنت .
حذر الفيزيائي ستيفن هوكينغ من مخاطر الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يطور إرادة خاصة به وهذه الإرادة يمكن أن تتعارض مع مصالحنا.. فالتطور القوي للذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون إما أفضل أو أسوأ شيء يحدث للإنسانية على الإطلاق.
كما حذرت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليت من أن الذكاء الاصطناعي قد يشكل قوة لنشر الخير، وأن يساعد المجتمعات على التغلب على بعض التحديات الكبرى في الوقت الراهن. غير أن هذه التكنولوجيا يمكن أن تكون لها أيضا آثارا سلبية، لا بل كارثية، إذا ما تم استخدامها دون إيلاء اعتبار كاف لتأثيرها على حقوق الإنسان.
مخاطر الذكاء الاصطناعي على الحق في حرية التعبير
إن الحق في حرية التعبير كما جاء في القانون الدولي لحقوق الإنسان “لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، و يشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود.”( المادة 19من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
ويؤكد أن نفس الحقوق التي يتمتع بها الأشخاص خارج الانترنت يجب أن تحظى بالحماية أيضا على الانترنت، ولا سيما حرية التعبير ، التي تنطبق دونما اعتبار للحدود وبأي وسيط من وسائط الإعلام يختاره الفرد.
وتحتل حرية التعبير في عصر الذكاء الاصطناعي أهمية بالغة في ظل تنامي استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، ودورها في جمع البيانات الضخمة التي تعتبر النفط الجديد في العصر الحالي والوقود الذي يغذي هذه النظم، غير أن للذكاء الاصطناعي له وجه مضيء ووجه مظلم.
تعتمد منصات التواصل الاجتماعي على محركات البحث التي تستخدم الخوارزميات ، التي تقرر وترسل توصيات وتوجه المستخدم وتتوقع وتتنبأ ، و يتم التحكم في ما تعتقد و تقرأه وتحدد مدى مشاركة المحتوى مع الجمهور، والأفراد، ومع أي منهم تتم مشاركة هذا المحتوى ومتى يتم ذلك، وتقوم بتنقيح المحتوى المنشور ، غير أن عملية اتخاذ القرار الكامنة في عملية تنظيم المحتوى تثير مخاوف من التأثير على حرية التعبير والتلاعب بتوجهات الأفراد.
استخدام الذكاء الاصطناعي للتأثير في نتائج الانتخابات
تستخدم نظم التعلم الآلي الخوارزميات التي تعرف وتدرس سلوك الناخبين، ثم التأثير في خياراتهم والتلاعب بتوجهاتهم و التأثير على الرأي العام وتوجيهه، أو في الوصول إلى الأفكار والتعبير عنها؛ على سبيل المثال استهداف الناخبين الأمريكيين، حين حصلت شركة “كامبريدج أنالتيكا” للاستشارات السياسية على بيانات شخصية ل50 مليون مستخدم ل “فيسبوك” ، وقد عملت الشركة مع الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب سنة 2016، مما جعل من أدوات حرية التعبير كوسيلة للتلاعب بالرأي العام عن طريق إدخال وتضخيم المحتويات الكاذبة والمضللة في النظام البيئي للمعلومات الموجودة على الأنترنت.
تنامي المعلومات المضللة المتعلقة بجائحة فيروس كورونا
شكلت الأزمة الصحية العالمية لجائحة كوفيد 19 فرصة مهمة لنظم الذكاء الاصطناعي في مكافحة خطر الجائحة وتتبع انتشار المرض، غير أن المعلومات المضللة والأكاذيب التي أصبحت شائعة المتعلقة بجميع جوانب كوفيد 19، التي انتشرت بفعل استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ساهمت في تقويض جهود الدول في التصدي للجائحة. كما وصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية بالقول ” إن المعلومات المضللة بشان اللقاحات تسري كالنار في الهشيم ولا تقل خطورة عن الأمراض التي تساعد على انتشارها”.
المراقة الرقمية وتأثيرها على حرية التعبير
شكلت المراقبة القائمة على التكنولوجيا عاملا في تقليص الحيز المدني في العديد من البلدان، حيث لجأت الدول إلى المراقبة عبر الأنترنت، استخدام برمجيات التعرف على الوجه لتعزيز المراقبة، واختراق أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها من يخطط للمظاهرات وينظمها وحتى المتظاهرون أنفسهم. وفي هذا الصدد دعت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليت إلى الإعلان عن حظر صريح لتطبيقات الذكاء الاصطناعي التي لا يمكن تشغيلها وفقا للقانون الدولي لحقوق الإنسان وفرض وقف اختياري واستخدام نظم الذكاء الاصطناعي التي تنطوي على مخاطر كبيرة على التمتع بحقوق الإنسان ، ما لم تتوفر ضمانات كافية لحماية حقوق الإنسان وإلى أن تتوفر هذه الضمانات.
إلى جانب الحكومات تقع مسؤولية حماية وتعزيز حقوق الإنسان على عاتق الشركات التي تعتبر فاعلا رئيسيا في تطوير واستخدام ونشر نظم الذكاء الاصطناعي.
مسؤولية الشركات في حماية حقوق الإنسان في سياق الذكاء الاصطناعي.
يهيمن على مجال الذكاء الاصطناعي القطاع الخاص، شركات التكنولوجيا العملاقة ( غافام) ( غوغل، ابل، فيسبوك، أمازون، مايكروسوفت) بالولايات المتحدة الأمريكية و( بات ) ( بايدو،علي بابا ، تنسنت) بالصين. لذلك يجب وضع حقوق الإنسان في صلب تطور واستخدام ونشر تقنيات الذكاء الاصطناعي. وينبغي أن تكون العناية الواجبة بحقوق الإنسان من أجل تحديد وتناول ومعالجة الآثار الفعلية والمحتملة على حقوق الإنسان نتيجة لأنشطتها، وفي هذا الصدد ، اعتمد مجلس حقوق الإنسان المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، حيث تقوم هذه المبادئ على ثلاث ركائز وهي ( الحماية والاحترام والانتصاف ):
الحماية : واجب الدولة في الحماية من انتهاكات الأطراف الثالثة لحقوق الإنسان، بما فيها المؤسسات التجارية.
الاحترام : هي مسؤولية الشركات في احترام حقوق الإنسان، مما يعني أن على المؤسسات التجارية أن تتصرف بالعناية الواجبة لتجنب انتهاك حقوق الآخرين ومعالجة الآثار السلبية التي تشارك فيها.
الانتصاف : هي الحاجة إلى زيادة وصول الضحايا إلى الانتصاف الفعال القضائي منه وغير القضائي.
خلاصة:
إن مستقبل العالم ومستقبل الديمقراطية وحقوق الإنسان مرتبط بمدى الاستخدام الجيد لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مسترشدا بمبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها دوليا ، و البحث عن توازن بين الذكاء الاصطناعي وحماية الحقوق والحريات ، فكل استخدام سيء سيساهم في تقويض الحريات والحقوق، غير أنه يمكن استخدام هذه التكنولوجيا في تسريع التنمية وحماية وتعزيز حقوق الإنسان.
عبد الله أمحزون باحث في الذكاء الاصطناعي و حقوق الإنسان.