الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتأثيرات الذكاء الاصطناعي (2/2)

د. محمد الخالدي

الحق في الولوج إلى الخدمات الصحية وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي:

ساهمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير الخدمات الطبية وتيسيرها وتمكين الأطر الطبية من أداء مهامهم بكفاءة واتقان، خصوصا تلك التي تتطلب درجة عالية من الدقة والتعقيد. كما أن أزمة كوفيد 19 كشفت عن الإمكانيات التي توفرها تقنيات الذكاء الاصطناعي على مستوى تجميع وتحليل واستثمار المعطيات المتعلقة بانتشار الأمراض ومواجهتها في أوقات قياسية. ويراهن على هذه التقنيات كثيرا في كل مجالات التكنولوجيات الطبية بالغة التعقيد. إلا أن الأهمية التقنية لاعتماد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن تحول دون استحضار المخاوف المرتبطة بسوء استخدامها. فالمعلومات الطبية الشخصية يمكن أن تساعد على تيسير التدخلات العلاجية والوقائية كما يمكن أن تشكل أداة لممارسة التمييز والتحيز، كما أن هناك مخاوف من استخدام التكنولوجيات الطبية الذكية في عمليات تصفية تستهدف مواطنين من أصول عرقية أو اجتماعية معينة، أو في اتخاذ قرارات طبية خطيرة آلية دون تدخل العامل البشري، مثل الموت الرحيم وبتر الأعضاءإلخ.

من أجل ضمان الاستخدام السليم والإنساني لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بادرت منظمة الصحة العالمية إلى وضع مجموعة من القواعد والمبادئ التي تؤطر هذا الاستخدام، حيث تم التنصيص على ضمان حماية استقلالية الإنسان، وتعزيز رفاه الإنسان وسلامته والمصلحة العامة، وضمان الشفافية وقابلية التفسير والوضوح، وتعزيز المسؤولية والمساءلة، وضمان الشمول والإنصاف، وتعزيز الذكاء الاصطناعي المستجيب والمستدام. وهي مبادئ تستهدف بالأساس ضمان استخدام شفاف ومسؤول لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بشكل يحافظ على استمرارية تحمل الانسان لمسؤوليته في اتخاذ القرارات الطبية وفي تيسير ولوجية الخدمات الطبية والعلاجية دون تمييز أو إقصاء، وفي ظل احترام قواعد القانون وقيم حقوق الانسان. إلا أن هذه الرؤية تحتاج إلى ترسانة قانونية لتحصينها كما تتطلب إشاعة ثقافة المسؤولية الرقمية والاستخدام الأمن والمسؤول لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بين المهنيين في المجال الصحي وكذا المستفيدين من خدماته. كما ينبغي الاستثمار أكثر في : تأهيل الأطر الطبية والتمريضية، تطوير تجهيزات المستشفيات والمراكز الطبية البحثية، تطوير برامج تكوين كليات الطب والصيدلة ومعاهد التكوين في مجالات الصحة العامة المختلفة، وفي تشجيع البحث العلمي في مجالات تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي واستعمالاته الطبية.

الحماية الاجتماعية والذكاء الاصطناعي:

تحتاج أنظمة الحماية الاجتماعية إلى التطوير الدائم والمستمر لتقنيات معالجة وتحيين البيانات والمعلومات الخاصة بالمؤمنين، كما تلعب هذه التقنيات دورا مهما في مراقبة التزام الفاعلين بالقوانين والمساطر. لذلك ساهمت تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في تجويد الكثير من خدمات التغطية الاجتماعية ويراهن عليها كثيرا في ضمان شفافية وإنصاف هذه التغطية، خصوصا إذا ما تم تعميم تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وتيسير آليات التنسيق الذكي بين المؤسسات المالية والضريبية والاجتماعية والصحية. لكن هناك مخاوف بخصوص استخدام المعطيات الشخصية لأغراض تمييزية مرتبطة بالعرق أو الانتماء الاجتماعي أو الجندري أو تلك المرتبطة بالوضعية الصحية النفسية أو الجسدية.

الحق في التعليم وتأثيرات الذكاء الاصطناعي :

تلعب تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي دورا مهما في تطوير أنظمة التعليم والتعلم، من خلال ما تتيحه من فرص خلاقة تتيح للأفراد التعلم بفاعلية وإيجابية بعيدا عن اكراهات الفصل الدراسي التقليدي، من خلال استراتيجيات التعلم الذاتي وعن بعد. كما أن هذه التكنولوجيات الذكية تساهم بشكل كبير في تطوير البرامج والمناهج، وفي تيسير تعلم الأشخاص في وضعية إعاقة وذوي الصعوبات الخاصة. كما أن هذه التكنولوجيات توفر خدمات تعليمية في أوقات الأزمات وللأشخاص في ظروف صعبة، دون أن نغفل دورها الرائد في الارتقاء بتقنيات التدريس وفي تغيير طرق اشتغال المدرسين. لكن هناك إشكالات مرتبطة بغياب تكافؤ الفرص فيما يخص ولوجية الفضاء الرقمي واستعمال برامج التعلم الذكية، ونقص الاهتمام بإنتاج واستخدام هذه البرامج في المؤسسات الجامعية والمراكز التكوينية الخاصة بتكوين وتأهيل المدرسات والمدرسين وكذا الأطر التربوية والإدارية العاملة في مجال التربية والتكوين. كما أن نظم التقويم والاشهاد المتداولة ماتزال تقليدية ولا تنسجم ومتطلبات التعليم الذكي. وتجدر الإشارة إلى تنامي مخاوف بخصوص احتمالية تقليص عدد الأطر التربوية والإدارية بسبب الاستعمال المتزايد للبرمجيات التعليمية والتدبيرية الذكية. لكن ستزداد الحاجة إلى نوعية خاصة من المدرسين والمدبرين القادرين على مواكبة المتغيرات والمستجدات المتسارعة. بل إن منظومة التربية والتكوين بكاملها بحاجة إلى إعادة النظر في الكثير من أسسها وأليات اشتغالها وإلا ستجد نفسها خارج الزمن العلمي والتكنولوجي. كما أن الانخراط العشوائي وغير المدروس في اعتماد البرامج التعليمية القائمة على الذكاء الاصطناعي سيكون محفوفا بالمخاطر المرتبطة بتأمين الفضاء المدرسي الرقمي سواء من حيث حماية المعطيات الشخصية أو من حيث تيسير الاستخدام الآمن للبرامج من طرف الأشخاص القاصرين وفق ما تقتضيه مصلحتهم الفضلى.

إن الانفتاح على برامج الذكاء الاصطناعي في مجال التربية والتعليم يقتضي توفير بنيات وتجهيزات وبرامج رقمية آمنة ومتاحة للجميع،وتكييف البرامج والمناهج، التأهيل المستمر للمدرسين، وتطوير أنظمة التقويم والإشهاد، وتسريع وتيرة رقمنة الأنظمة الآلية المرتبطة بتدبير منظومة التربية والتكوين، مع استحضار متطلبات الذكاء الاصطناعي وأخلاقياته، وإعادة النظر في البرامج والمناهج والأطر المرجعية للتقويم والإشهاد من أجل تعليم ذكي أكثر انصافا وجودة وأمانا.

الحق في بيئة سليمة ومستدامة:

تتعلق الحقوق البيئية بحق الإنسان في بيئة سليمة، وآمنة، ومستدامة، وذات جودة ، بكل ما يعنيه ذلك من ترابط بين هذه الحقوق وبين منظومة حقوق الانسان بكاملها، ذلك أن توفير شروط هذه البيئة السليمة يتطلب نمطين من الحقوق: حقوق أساسية من قبيل الحقوق المدنية والسياسية وحقوق إجرائية مرتبطة بالإجراءات والمساطر الضرورية لتفعيل الحقوق الأساسية وتيسيرها، وذلك من قبيل الحق في الوصول إلى المعلومة، الحق في المشاركة العامة والحق في الوصول إلى العدالة.

وسواء تعلق الأمر بالحقوق الأساسية أو الإجرائية، فإن تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي تلعب دورا مهما في تعزيز هذه الحقوق وتيسير التمتع بها، من خلال:

  • تجميع المعطيات بشكل متزامن ومتفاعل مع المتغيرات الميدانية وتوفيرها لمختلف المتدخلين من اجل استثمارها في إعداد وتتبع وتقويم مختلف التدابير والسياسات المتعلقة بالبيئة واستدامة الموارد؛

  • ترشيد الموارد الطاقية والمائية من خلال برامج ذكية تقوم على أتمتة الاستهلاك واستثمار المصادر الطبيعية والمتجددة؛

  • التدبير المجالي والعمراني الذكي بفضل برمجيات تيسر الاستثمار الأفضل للمجال بشكل يستحضر مختلف المعطيات البيئية بشكل مدمج ومتفاعل(المدن الذكية)؛

  • الأنظمة الذكية للرصد والاستشعار والتدخل في مجالات الحد من التلوث؛

  • تكنولوجيات مراقبة المحميات الطبيعية ومختلف الكائنات المهددة بالانقراض؛

  • الأنظمة الذكية لمراقبة جودة الماء الموجه للاستهلاك عبر كل مراحل انتاجه واستهلاكه؛

  • وسائل التواصل والنظم الذكية لتيسير التنسيق والتعبئة والترافع في قضايا البيئة والاستدامة؛

  • ….إلخ

لكن رغم ذلك، هناك مخاوف جدية بخصوص استغلال تقنيات الذكاء الاصطناعي في ممارسة التحيز والتمييز والمخاطر المرتبطة بالتدبير الآلي لأنظمة مراقبة وتدبير الموارد، خصوصا ما يتعلق منها بالهجمات السيبرانية الإرهابية، أو تلك المرتبطة باختراق الأنظمة البيئية واستغلالها لأغراض اجرامية.

الحق في السكن:

يعتبر الحق في سكن ملائم يوفر للإنسان ظروف عيش كريمة ومحترمة، من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، والتي تتأثر بتغير الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في كل بلد. لكن هذا الحق يتأثر أيضا بالتطور العلمي والتكنولوجي، من خلال ما يتعلق بالدراسات التقنية المرتبطة بالتخطيط العمراني واستثمار المعطيات الإحصائية للسكان ولتطورهم وكذا تحيين هذه المعطيات بشكل متواصل.وهو ما يمكن أن تلعب فيه تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي دورا محوريا. إلى جانب دورها في تطوير النظم الهندسية وفق متطلبات الاستدامة(المنازل الذكية)، وتحسين جودة الحياة داخل المنازل، وتطوير نظم التهيئة المجالية والحضرية وفق مقاربات أكثير شمولية وانصافا واستدامة(المدن الذكية).

إن إنتاج برمجيات ذكية في مجالات التخطيط العمراني والهندسة المعمارية ونظم التهيئة المجالية، يمكن أن تسهم بشكل كبير في تحسين طرق استغلال المجال وتوفير سكن ملائم ومستدام. لكن سياسات التعمير والتخطيط ونظم التهيئة المجالية لا تقتصر فقط على المجال التقني، بل هي ثمرة تداخل مجموعة من العناصر والمؤثرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مؤثرات يمكن أن تعمل على توجيه استعمال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي بشكل يخدم مصالح فئوية أو سياسية معينة. لذلك هناك مخاوف بخصوص استغلال المعطيات الشخصية لغايات تمييزية أو من أجل تعزيز التفاوتات الاجتماعية والمجالية.

على مستوى آخر، فالبرمجيات الذكية المنزلية تيسر حياة الأفراد وتساهم في ترشيد نفقات الاستهلاك (الماء والكهرباء مثلا)، لكن هناك مخاطر أمنية مرتبطة بالحياة الخاصة للمنازل الذكية المرتبطة بشبكة الانترنت.

الحق في الماء والغذاء:

إن اعتماد تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في مجالات انتاج ومراقبة جودة الماء الصالح الشرب، سيساهم بشكل كبير في تطوير نظم استغلال الموارد المائية وترشيد ومراقبة استهلاكها، بشكل يسمح بإرساء نظم رصد ويقظة تحول دون حدوث أزمات مفاجئة وغير منتظرة، كما أن النظم الذكية للمراقبة تتيح للهيئات المعنية التداخل الآني والدقيق لمعالجة كل الاختلالات المرتبطة بالاستهلاك الفردي والجماعي على السواء. لكن هناك تحديات جدية على مستوى تأمين الأنظمة الذكية الخاصة بتدبير السدود ومحطات المعالجة وخطوط الإمداد وغيرها من بنيات وتجهيزات، فمخاطر اختراق هذه النظم واستعمالها لأهداف إجرامية أو إرهابية تظل قائمة ومحتملة.

أما فيما يتعلق بضمان الحق في غذاء صحي للجميع، فيمكن لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي أن تلعب دورا مهما في مجالات: ترشيد استغلال الأراضي، وتطوير النظم الزراعية، وتطوير الصناعات الغذائية ونظم مراقبة جودتها، وترشيد استخدام الأسمدة، وتطوير نظم الري. كما أن هذه البرمجيات الذكية تساهم بشكل كبير في تدقيق المعطيات المرتبطة بالتجارة العالمية في مجال الأغذية ومراقبتها. لكن رغم ذلك هناك مخاوف مرتبطة بسوء استغلال المعطيات الشخصية للمستهلك، وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تصنيع المنتوجات المعدلة وراثيا. إلى جانب المخاطر المرتبطة بتهميش أو تغييب التدخل البشري لصالح نظم آلية تحكمها خوارزميات محكومة بمنطق الفعالية الاقتصادية ولو على حساب صحة ومصلحة المستهلك.

خلاصات:

إن استعمال الفضاء الرقمي سلوك اجتماعي وقانوني وانساني له تبعات ونتائج على حياة الفرد والمجتمع. فالحرية الظاهرة والتخفي المحتمل يخفيان ورائهما إمكانيات تقنية لانهائية تسمح برصد وتتبع وتوثيق كل السلوكيات والتصرفات. فمستعمل هذا الفضاء ينبغي أن يتحلى باليقظة عند استعماله لمعلوماته الشخصية (الاجتماعية والمالية) وألا يستعمل المعطيات التي تصل إليه بشكل مخالف للقانون بل ألا يحاول دخول أنظمة معلوماتية غير مسموح له بولوجها أو الضغط على روابط يجهل طبيعتها أو مصدرها مع التعامل بجدية مع طلبات الإذن باستعمال المعطيات الشخصية.

تشكل استقلالية نظم الذكاء الاصطناعي مصدرا جديا للكثير من المخاطر التي ينبغي التقليل منها بفضل ضمان استمرارية الاشراف البشري المسؤول، وفق ميثاق أخلاقيات يحدد بوضوح ضوابط الاستخدام وحدوده، مع مراعاة خصوصيات كل مجال من مجالات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛

إن الاستعمال الرشيد والمعقلن لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي في مجالات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية يتطلب:

  • نشر ثقافة الاستخدام الآمن والمسؤول لتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي؛

  • خلق آليات مستقلة لليقظة الذكية من أجل رصد التجاوزات المرتبطة بانتهاك الخصوصية وبسوء استغلال تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي؛

  • تكييف التشريعات مع تحديات الذكاء الاصطناعي وما تتطلبه من حماية قانونية للخصوصية وللمعطيات الشخصية؛

  • تعزيز آليات التأهيل والتكوين للأجراء للتكيف مع متطلبات الأتمتة والذكاء الاصطناعي؛

  • تقنين وضبط عمليات تسريح العمال لأسباب مرتبطة بالأتمتة؛

  • إدراج أخلاقيات استعمال الذكاء الاصطناعي في البرامج التكوينية الخاصة بالأطر والهيئات ذات الصلة بمجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من قبيل: الأطباء، المهندسين، الأطر التمريضية، القضاة، المحامين، تدبير المقاولات، مفتشي الشغل، الهيئات المنتخبة، إلخ

  • إدراج تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وأخلاقياتها ضمن برامجها التعليمية وضمن برامج تكوين الأطر التربوية والإدارية؛

  • تعزيز التكوين النقابي في مجالات الذكاء الاصطناعي ومخاطره؛

  • إدراج أخلاقيات استعمال الذكاء الاصطناعي ضمن البرامج التكوينية لمؤسسات تطوير البرامج المعلوماتية (جامعات، معاهد، مراكز أبحاث مستقلة، شركات ..)؛

  • تعزيز آليات التتبع واليقظة الذكية بالمؤسسات المختصة بأمن النظم المعلوماتية وشموليتها للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

    د. محمد الخالدي : مختص في الدبلوماسية الاقتصادية وتأثيرات الذكاء الاصطناعي.

About Post Author