أسماء الحمزاوي : لو لم أكن مسكونة بروح “كناوة” لما حملت “الكمبري”
مغربيات
في وسط “كناوي“ نشأت أسماء الحمزاوي، فالوالد هو “المعلم“ رشيد الحمزاوي و الأم و الشقيقة الكبرى عائشة كلتاهما “كناويتان“ و إن كانتا لا تحترفان هذا المجال. و لأن أسماء الابنة الصغرى للمعلم رشيد كانت تلازمه كظله، فقد تشربت منه “تكناويت“ و وجدت نفسها مقبلة على تعلم العزف على آلة “الكمبري” في سن مبكر، لتنشئ بعد ذلك فرقة “ كناوية” نسائية “بنات تنبوكتو“ هي الأولى من نوعها لتصبح “المعلمة” أسماء الحمزاوي، و تخترق مجالا ظل لوقت طويل حكرا على الرجال..
“مغربيات“ تواصلت مع “المعلمة“ أسماء الحمزاوي للحديث عن احترافها للفن “الكناوي” و عن الصعوبات التي واجهتها في هذا المجال..
متى بدأت رحلتك في الفن الكناوي؟
بداياتي في الفن الكناوي كانت بالوسط العائلي، فوالدي هو “المعلم“ رشيد الحمزاوي و والدتي هي كذلك فنانة “كناوية“ و شقيقتي كذلك عاشقة لهذا الفن. منذ سن الخامسة بدأت أرافق والدي في حفلاته و أردد خلفه بعض “اللازمات الكناوية“؛ ثم سرعان ما بدأت أمسك بآلة “الكمبري” و أدندن عليها. تعرفين أن الإنسان عندما يكون في سن صغيرة، لا تكون لديه القدرة على ترديد الكلام بشكل جيد، إلا أنني كنت أحفظ الكلام عن ظهر قلب، لدرجة أنني لازلت أحتفظ إلى غاية اليوم بشريط “كاسيت“ مسجل فيه فيه كل الكلام “الكناوي“ الذي كنت أسمع والدي يؤديه.
هل أنت الابنة البكر لأبويك؟ لذلك ورثت عنهما هذا الولع بالفن الكناوي؟
لا أبدا لست الابنة البكر، لي شقيقة أكبر مني، عكسي تماما كانت هي أكثر قربا و التصاقا بوالدتي، فيما كنت أنا ألازم أبي كظله، لهذا السبب ارتبطت بشكل قوي بالفن “الكناوي“ الذي يسكنني حد الجنون. و للعلم ففي الثقافة الكناوية، فإن ابنة المعلم لها نصف “تكناويت“ التي ترثها عن أبيها، حتى و إن كانت لا تؤدي هذا اللون الموسيقى، وهذا معروف في أعراف كناوة. يكفي أن يكون أبوك “كناوي“ لتكسب نصف “تكناويت“.
المعروف أننا اعتدنا رؤية الرجال يعزفون على آلة الكمبري، إلا أنك كسرت هذه القاعدة، حيث رأيناك في العديد من المناسبات تعزفين على هذه الآلة رغم صعوبتها. حدثينا عن هذه التجربة..
آلة الكمبري آلة “مقدسة” في “تكناويت” إن صح التعبير، و هي ليست بالسهلة. أذكر أول مرة أمسكت فيها بهذه الآلة كنت في السابعة من عمري، و مع إلحاحي الشديد لتعلمها جلب لي والدي آلة صغيرة صنعها خصيصا لي حتى تتناسب و مقاس يدي، لكي أتعلم العزف عليها. وتكمن صعوبتها في كون “الكمبري“ لا يتوفر إلا على ثلاثة أوتار فقط، و بهنا تتجلى براعة العازف في أن يخرج هذه الأنغام السحرية باللعب على ثلاثة أوتار فقط، كما أنه ثقيل وصلب، و من ليست له بنية جسمانية قوية يصعب عليه حمله و العزف عليه بسهولة، دون الحديث عن هذا التناسق بين العزف و الغناء، حيث هناك فنانون “كناويون“ لا يستطيعون العزف بدون غناء و لا الغناء بدون عزف، إذا لم يؤدوا الإثنين معا تاهوا.
من علمك العزف على آلة الكمبري؟
طبعا والدي هو من قام بتعليمي، وقد لقنني كل التقنيات المتعلقة بهذه الآلة التي أعشقها، بدءا بالتعرف على النوتات الموسيقية و مكانها على الآلة و هي ما نطلق عليها “المحاط“، و قد كان حريصا على ألا أتعلم بشكل خاطئ. أذكر جيدا أنني عانيت كثيرا حتى أتمكن من العزف.وقد بلغ به الأمر أنه كان يقسو علي أحيانا، لكنها كانت قسوة من أجل أن أتعلم بشكل صحيح.
ألم تجعلك هذه القسوة و الصرامة تنصرفين عن تعلم الآلة؟
في مجالنا، مجال “تكناويت“ إذا لم تكن “حرش“ أي جدي و صارم فلا داعي لأن تمارس هذا الفن. منذ البداية حذرني والدي وهو يسألني “هل أنت متأكدة من أنك تريدين تعلم العزف على الكمبري“، ومع تشبثي برغبتي في التعلم قال لي يوما “تحملي مسؤوليتك وعواقب كل ما يترتب على حمل هذه الآلة“، و منذ ذلك الحين أدركت أن رحلتي مع “نكناويت ” لن تكون سهلة بالمرة.
متى كانت أول حفلة أحييتها بآلة “الكمبري”؟
عندما كان عمري 12 سنة. قبل ذلك الوقت كنت قد دخلت في تجارب سابقة مع والدي، حيث أنه كان يشجعني على إحياء ليالي “الجذبة“، وكان يتركني أحيانا في حفلات وحدي و أنا أعزف و أغني دونما تدخل منه، إلى أن تخلصت من رهبة مواجهة الجمهور و أصبحت قادرة على قيادة فرقة “كناوية“ لوحدي لليلة كاملة. تشربت فن الحرفة منذ وقت مبكر، وبت أعرف جيدا كيف أضبط الميزان أو ألا ُأسْقِط “القراقب“ وما إلى غير ذلك من تقنيات الأداء الجيد و الضبط. في سنة 2012 شاركت في مهرجان أُقيم بمدينة الدار البيضاء، ولم يكن عمري يتجاوز 12 سنة. لم أكن قد خبرت الجمهور من قبل، و كانت هذه هي أول مرة ستصعد فتاة بآلة “الكمبري“ على الخشبة وتواجه جمهورا ذواقا له أذن موسيقية لا يستهان بها يمكنه أن يميز العازف الجيدة من غيره. كنت مرعوبة ، لكني ما إن صعدت على الخشبة و اندمجت في الغناء و العزف، حتى تحولت لشخص آخر لا يأبه بمن أمامه. كانت هذه التجربة هي المحك الحقيقي الذي وضعني بعد ذلك على سكة “تكناويت“.
بعد هذه التجربة اصبحت أحيي الليالي الكناوية، بدءاً بضرب “العادة“، ثم “الطبولة“ ف“أولاد بامبرا“ و “الصلاة على النبي“ و “الكشا“وغيرها من “الطروحة“ التي تميز الفن “الكناوي“، و أواصل الاى أن تفتح الرحبة، حتى أن الماء لا يدخلها. إذن كل هذه الطقوس الكناوية تشربتها منذ الصغر و أنا أرافق والدي في الليالي، حتى أصبح لدي ريبيرتوار مهم من “تكناويت“.
بِم تنصحين الفتيات اللواتي يرغبن في دخول مجال “تكناويت“؟
شيء رائع أن تقتحم الفتيات هذا المجال، لكن من تريد أن تحمل آلة ا“لكمبري“، عليها أن تدرك بأنه ينبغي تحملها باحترافية عالية، لأن من لا تسكنه روح “تكناويت“ لا يستطيع أن ينطق الآلة. كما أن ثقافة “تكناويت“ ليست سهلة، وهو مجال محفوف بالصعوبات و التحديات، لأنه مجال ظل لوقت طويل حكرا على الرجال. نصيحتي لهن أن يتركن “الكمبري“ كآخر مرحلة، لأنه يستحسن البدء ب“القراقب“ أولا، و “التطبيل“ (أي النقر على الطبل) و القدرة على تتبع المعلم عن طريق ضبط الميزان بهذه الأدوات أولا، مصحوبة بحركات موزونة بالرجل، آنذاك يمكن التفكير في حمل “الكمبري“، لكن مع اتباع شيخ “معلم“، لأن الثقافة الكناوية تقول “شيخ بلا شيخ جبحو خاوي“، أي من لا شيخ له لا يعول عليه و جعبته فارغة.
هل تعتبرين نفسك الآن “معلمة“؟
نعم. حصلت على بطاقة “المعلمة” سنة 2018، منذ مشاركتي الأخيرة في مهرجان الصويرة، وقد أديت برفقة فرقتي “بنات تنبوكتو“ التي تتكون من ست فتيات و أنا سابعتهم فقرة كانت جد ناجحة، وكانت نساء كثيرات ضمن المتفرجين. أصبحنا اليوم خمسة فتيات فقط، بعد مغادرة إثنين من عناصر الفرقة. لكن رغم مغادرتهما إلا أن صلتهما بالفن “الكناوي“ لم تنقطع. أعرف فتيات حصلن على مناصب هامة في بعض الوظائف، لكنهن لم يقدرن على الابتعاد عن “القراقب“. “تكناويت“ مرض لا شفاء منه، وحتى إن كانت ربانة طائرة، فإنها لن تتردد في حمل “القرقابة“ في ليلة كناوية (تضحك).
ماذا أخذت منك “تكناويت“ كامرأة، خاصة و أن هذا الفن لا يمارسه إلا الرجال؟
لا يمكن أن ننكر أن “كناوة“ كلهم و بدون استثناء ليسوا لطفاء تماما. “الكناوي“ شخص صعب المراس بحكم طبيعة اشتغاله. بالنسبة لي فكما قلت لك سلفا “الشيخ بلا شيخ جبحو خاوي“، و شيخي هو والدي الذي كان و لازال يحميني من أي مضايقات يمكن أن أتعرض لها داخل مجال اشتغالنا. لكي أصدقك القول وسط عالم الرجال أضطر لكي أكون مثلهم. حيث لا أستعيد أنوثتي إلا و أنا بين الفتيات. داخل فريق العمل ينبغي أن تتصرف مثل باقي العناصر. إذا غضبوا أبدي أنا أيضا غضبي و أعرف كيف أدافع عن نفسي وسطهم، و لا أترك لأحد مجالا لكي يتطاول علي سواء داخل العمل أو خارجه، وكل ما يتقاضاه عنصر من الفرقة أتقاضى مثله تماما، لا فرق بيني و بينه.
يمكن القول إن “تكناويت“ أخذت مني الوقت، أما الجهد ففقد ساعدتني بنيتي الجسمانية القوية بفضل رياضة الكاراتيه التي كنت مارستها لوقت طويل، حيث حصلت على الحزام الأزرق. أما بالنسبة لزوجي فهو دائما يشجعني و مقتنع بموهبتي الفنية في الفن “الكناوي“.
أين تصنعين آلات “الكمبري“ التي تعزفين عليها؟ هل تجلبينها من الصويرة و كم تكلفك؟
في الحقيقة أفضل أن أتعامل مع صناع بمدينة الدار البيضاء، لأن نسبة الرطوبة في الجو مرتفعة في الصويرة مقارنة بالبيضاء. أجلب الآلة في صيغتها الأولية بدون تجليد من الصويرة، و تنهي مرحلة الصنع في الدار البيضاء حتى تكون “منغومة“ أي حتى تحافظ على النغمة. أما بالنسبة للثمن، فهو لا يكلفني كثيرا، لأن الصانع يعرف أنني سأشتريه من أجل العمل و ليس للزينة، و يتراوح ثمنه بين 400 و 500 درهم.وأحيانا أستعين بآلات والدي الذي يتوفر لى الكثير منها.
بالنسبة ل“القراقب“ هل لازلت تلعبينها أم انقطعت عنها وتفرغت للعزف على “الكمبري“؟
أكيد لازلت أحتفظ ب“القراقب“ و ألعبها ببيتي كلما انتابتني الرغبة في ذلك، و للعلم فأنا في بعض الأحيان أعمل مع فرقة غنائية اسمها “كازا فلكلور“ مختصة في الفن الغيناوي و الكناوي و الفلكلور بشكل عام. غالبا ما أعزف الكنبري داخل الفرقة، لكن إذا تطلب الأمر أن أحمل “القراقب“ فإنني لا أتردد في ذلك. لذلك قبل العزف على آلة “الكمبري” يجب على كل “كناوي” أن يمر بكل تلك المراحل، “القراقب” و الغناء و الرقص وكل ما يتعلق بالفن الكناوي و يترك “الكمبري” آخر مرحلة. المشكلة هي أن تتطاول على الكمبري و أنت لا تجيد استعمال “القرقابة“.
هل تنتاب حالات تقولين فيها لنفسك ما الذي دفعني لهذا المجال المحفوف بالصعوبات و التحديات؟
أبدا. لم أقلها يوما. كما سبق وقلت لك أنا ولدت في وسط كناوي. كل أفراد أسرتي “كناوة“. حتى جدتي لأبي كناوية. لا يمكنني تصور حياتي خارج هذا المجال. هو امتداد لي و أنا امتداد له.
بصيغة أخرى لو لم تكوني كناوية. ماذا كنت تفضلين أن تكوني؟
شرطية (تضحك)
لماذا شرطية ؟
كي ألقي القبض على “كناوة“ (تضحك)
من هو المعلم الذي تعتبرينه قدوتك في فن “كناوة“
ومن يكون غير والدي. هو من علمني كل ما يتعلق بهذا الفن الجميل الذي يسكنني. علمني العزف و الغناء. لقنني كذلك أخلاق “كناوة“. مهما قلت ومهما فعلت لن أستطيع أن أشكره. منحني الكثير من الوقت وكان بسعة صدر لا يمكن تصورها، علما أنه صعب المراس، كما أن عمله في مصلحة الإنعاش و التخدير بمستشفى 20 غشت لم يكن يكن يترك له الوقت الكافي حتى للراحة. كان يعمل من الثامنة صباحا إلى الثانية بعد الزوال بالمستشفى، ومن الثامنة ليلا إلى ما بعد منتصف الليل في فرقة كناوية في أحد المحلات بالدار البيضاء. ومع ذلك كان يجد الوقت ليعلمني أصول الغناء و العزف. كان أستاذا صارما، لدرجة أنه علمني مكان النوتات الموسيقية على “زليج“ أرض بيتنا، و لم يكن يعيد الدرس مرتين. كان يضع أصبعه على مكان النوتة في قطعة “الزليج” و أنا أعزف ما يناسبها على الآلة، و الويل لي إذا أخطأت. كنا نتكلم لغة لا يفهمهما إلا نحن الاثنان، رغم أن أفراد الأسرة كلهم “كناوة“ لكنهم كانوا يبدون دهشة أمام اللغة التي كنا نتحدث بها، كأن يقول لي مثلا ستعزفين ثلاثة و تخرجين ثم تعزفين ستة و هكذا دواليك. هذا من الناحية الفنية، أما عن الجانب النفسي، فقد تعلمت منه الصبر و المثابرة، ثم أهم شيء هو ألا أرد على استفزازات الآخرين، كيفما كانت، كل ما يهم هو أن أعزف و أغني بشكل جيد و ألا أعير أي اهتمام لأية انتقادات كيفما كان.
هل تستحضرين أية مواقف من هذا النوع تعرضت لها؟
قبل فترة قصيرة كنا في حفل بالصويرة ضم عددا يتجاوز تقريبا 48 “كناوي“ من مختلف مناطق العالم، و كنت المرأة الوحيدة من بينهم، وهو أمر جعلني متوجسة، لكن والدي قال لي يجب أن يكون الرد على الخشبة. عندما تصعدين إليها آنذاك يحق لك أن تردي على الاستفزازات. لو لم يكن والدي ما كنت لأصل إلى هذا المرحلة. الحمد لله جبت العديد من دول العالم في حفلات بفضل مدير أعمالي وهو بالمناسبة سويدي الجنسية. عملنا ليس سهلا و الكسب من ورائه ليس دائما متاحا، حيث إنه مقرون بالصدفة و مواعيده غير محددة. إذا اتصل أحدهم وطلبك فأنت تعمل و إذا لم تتلق أي اتصال فإنك تظل تنتظر ببيتك، دون ذكر الصعوبات الكثيرة التي نواجهها خاصة إذا كنت امرأة في وسط رجالي بامتياز.